اخبار عالمية

غزة و السودان.. بلاء واحد و وجوه مختلفة

الكريسماس و الخبرين الأولين.. نحو إعادة تعريف الاحترام و تقدير حق الجار

كتب/ مصطفى نصار
أثارت صور محمد صلاح محتفلًا بالكريسماس موجة غضب و استنكار واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأسهمت موجة الجدل لفتح موضوع الاحتفال أو التشنيع بصلاح تحت شعارات لا تعبر عن حقيقته كمجرد لاعب كرة يؤدي وظفيته ليس أكثر ، مما أعطى الأمر أكبر من حجم تغطيته الطبيعي بمراحل كثيرة ، من شأنها إعطاء السفهاء منبر حيوي للتحدث عن قضايا كبرى لا يستحسن أن يتكلم عنها ، لإنه حديثه أتى مقتبسًا من مقال باهت مائع لبيرالي الهوى علماني الفكر ، يساوي بين الضحية و الجلاد كتب في مايو ٢٠٢٣ ، فحفظه و ردده كالبغباوات نظرًا للضغط الملح  عليه .
 
قبيل دخولنا في خليفة شرح الكريسماس، من المهم التنبيه على أن فكرة المقال تنقسم على أمرين ، أولهما تذكير بإعادة تمركز الأولويات الحيوية و الهامة من الخبرين الأولين عبر نبذة مختصرة و مكثفة عما يحدث في فلسطين و السودان فقط لاحترام أنفسنا و كرامتنا قبيل احترام مستقبلنا في وجود منطقة على سعير ساخن ، و تعج بالأزمات الطاحنة ، و ثانيهما هو التذكير بأن العولمة فكرة فاسدة وجب مقاطعتها ، بل و حتمية مقاطعتها هنا هو المعايير لإنه من قاطع شهوة استهلاكه لمنتجات المقاطعة،  يسهل عليه مقاطعة الأفكار الغربية المسمومة الخبيثة ، و حتى بالنسبة لغير المقتنعين بفكرة عولمة الكريسماس يجدر التذكير بالخذلان و الهجر التي تعرضا له البلدتان العربيتان المسلمتان من أكبر مأساة وجودية و بلاء عظيم و كرب شديد لو تعرضت له لمت أو قبلت بالأمر الواقع عليك كعادته .
 
فعندما بدأت كورونا في العام ٢٠٢٠ ، دعا فيسزوجو دي لوكا حاكم مقاطعة كابينا الإيطالية لترك الاحتفالات بصفته إجراء وقائيًا ، معلنًا بذلك أن على الطليان ترك مظاهر “الأمركة الحمقاء”، و هجر دين الكريسماس .
 
و للمفارقة ، اقتبس المحافظ عبارة دين الكريسماس باعتبارها عنوان للكتاب المؤلف دين الكريسماس “كريستوفر ديكاي” أستاذ علم الاجتماع و الدراسات الكينسية في جامعة ديوك الذي يسرد فيه تسليع الكريسماس ليتحول من عيد ديني محض لعيد استهلاكي مادي ينفق فيه لشراء الهدايا و الزينة لتسهم بنمو رأسمال الشركات ، و لم تبدأ تلك العادات بشكلها الحالي المحلل و المعلمن المعولم إلا في القرن التاسع وفقًا لهانز هيلابراند أستاذ علم الأديان في جامعة أكسفورد .
 
و بغض النظر عن الجدل الدائر حول حكم الاحتفال القطعي به ، المثل العربي الشهير “لا تحشر زفة في حداد أخيك “المسيطر على المشهد إذن ببساطة شديدة لا يجوز أخلاقيًا و دينيًا و عرفيًا أن نحتفل في مآتم أخواتنا مع الخذلان الكبير لهم و الترك الشديد كما لو أنهم غرباء ، و لكننا لسنا إلا غثاء السيل كثرة لاذعة اللسان لا قدرة لنا إلا أن ننقل صدمتنا و خيبتنا المدوية و العميقة لشخص آخر ، فالتنصل و الهروب من التضحية و المسؤولية أكثر رسوخًا لدينا في العقل الجمعي للمصريين ، و بطريقة مثيرة للتقزز و القرف تجعل المرء يتساءل بصدق عن ردة الفعل إن ما مرت علينا أزمة شبيهة بالقسوة الشديدة و بنفس الكرب العظيم و البلاء الشديد التي من الممكن أن تتحول لخضوع و تأقلم لما عند المصريين من قدرة عجيبة تفوق شعوب الكوكب في التكيف و المعايشة مع الهدر القيمي و الديني لصالح إكمال الحياة حتى و لو كانت خربة تالفة مثلما أشار الدكتور تود سلون في كتابه حياة تالفة .
 
فلسطين و السودان :الإبادة المتكملة تتجسد بعوامل بؤسها العميق ، و أطعمة الموت المتنوعة .
 
في ظل تصاعد الأزمة الإنسانية في غزة و السودان،  يظل التذكير بها عامل حيوي و مساهم بشكل أو آخر في توثيق و أرشفة المآسي الموجودة في أرض الواقع ، مما قد يشمل القصص المتواجدة و الحكايات المنتشرة ،مما قد يشكل صورة دائمة و مستمرة و مغطية بشكل دائم ، أو كما معلوم في التعتيم الإعلامي إن لم تكثف القضية إعلاميًا فإنها تموت بالتدريج إلي أن تصبح ذكرى نادرة .
 
و لعل السودان و غزة تجسيد حي لنفس المعاناة و البلاء ، فكلاهما يعاني من التهجير و خطر المجاعة التي ذكرها تقريرين من الأمم المتحددة أن سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي مما قد يفاقم المجاعة الصعبة و المؤلمة ، و كذلك السودان على شفا مجاعة قاسية قد تؤدي بحياة ٨ مليون ، و هو أمر مهين و شائن في حق الإنسانية وفقًا لأوسكار ريكيت الصحفي البريطاني ، مما قد يمهد الأمر لموجات نزوح جديدة أكبر من سابقاتها ،التي يترواح أعدادها بين ٣ مليون ل ٥ مليون نازح لدول مثل تشاد و أثيوبيا فضلًا عن ترحيلهم أو عودتهم رغم نيران الحرب و استحالة المعيشية ، فضلًا عن انهيار الاقتصاد و اغتصاب ما يزيد عن ٧٠ امرأة يوميًا ، و انهيار البينة التحتية بطريقة شاملة تحتاج على الأقل ٦٠مليار دولار مثلما أشار الباحث ياسر زيدان عن الدور الأوربي في استمرار الحرب.
 
 و ما يحدث في غزة ليس أقل ، بل أشد وطأة و أقسى ألمًا، فقد تحقق كذب المقولات المتخيلة مثل لا أحد يموت من الجوع ولا البرد ليكتشف أنه الموت له أطعمة مختلفة و أشكال متنوعة ، فقد مات حتى الآن ١٠ أطفال رضع من برد الخيام بوقوف في عضلة القلب ، و مئات الكبار ،و كذلك انعدام البينة التحتية بطريقة مخيفة خاصة بعد التخلص و هدم مستشفى كمال عدوان بعد حصار دام شهرين ، مما أعطى للاحتلال منعة للقضاء على بقية المستشفى لإنها تمثل له أهدافًا يسيرة فضلًا عن عجزهم عن الوصول لاتفاق عادل لتبادل الأسرى و توجيه ضربات قاصمة للمقاومة الفلسطينية.
 
و يتزامن ذلك مع حالة تضخم و ندرة في السلع و المنتجات ، فاتجهت الناس في الدولتين لفكرة الشراء الأوربية ، و هي فكرة تنضوي باختصار شديد على شراء المقدار المطلوب بالقطعة الواحدة فقط لسد الرمق ، و بالطبع القذف العشوائي سمة أساسية مشتركة بين كل منهما .
 
فتلك الأغراض و المجازر تنم عن إبادة جماعية،  إما بيد الاحتلال الإسرائيلي في حالة غزة ، أو القوات النظامية للدولة في حالة السودان ليذق الشعب نفس الويلات و المآسي الحقة فقط من أجل الحصول على نصر حقيقي ، أو سلطة سياسية مثل حميدتي السودان ، و بالطبع تحولت كلا من البلدتين لشبكة مصالح دولية بدرجة أقل حدة ووضوحًا من الأزمة السورية قبل سقوط نظام بشار الأسد لينتهي مجمل المسألتين بتدخل من الخليج للتقسيم أو تطبيق مشروع مارشال المنفذ عقب الحرب العالمية الثانية بهدف إعادة تأسيس اليابان و ألمانيا الحديثة على النمط الأمريكي، لنسهم بمجرد الوقوف و المشاهدة في حين أن أقل القليل التبليغ و التذكير و احترام قدر مأساة الجار .
 
 
المؤمن كالجسد الواحد: المحرقة من وجهة نظر إسلامية .
 
من البديهات المفقودة في زمننا عدم الإحساس المتبادل ، لما له من أثر نفسي ثقيل على المستوى العملي ، و لإنهم معلوم بالضرورة أن العولمة عملية ممنهجة لغسيل الدماغ ، و تصفية العقل مفادها أن الفرد معزول عن محيطه الأكبر ، فكما تقول سنشيا ساسي في كتابها علم اجتماع العولمة أن تلك الفكرة صممت للعزلة الحقيقة على مستوين ، مستوى الفرد الضيق ، و المستوى الأوسع من الأمة أيا كانت مرجعتيها الدينية أو الفكرية ، فالعولمة تدجين منحرف غايته الأولى مثلما يصفها د.جلال أمين ” العولمة عملية مستدامة شاملة على كل شيء” حتى أفكار الفرد و ذوبانه التام مع الأرض.
 
 
و هو ما يتفق فيه أستاذ علم الاجتماع في كلية الملك في جامعة لندن كيفن روبنيس حيث يري أن الكريسماس اتصل بعملية العولمة الشاملة ، بتعقيب شامل من أولريش بيك عالم الاجتماع الألماني أن العولمة ظاهرة شاملة تكتب للضعفاء مصير و الأقوياء مصير آخر و تتصل بالتسليع بشكل مباشر ، و لهذا عندما اندمجت الدول بها انتهت سريعًا في خمس سنوات أو أقل على المستوى العالمي المصيغ لها بينما عربيًا لا نزال نتخبط في غياهب غيها ، و آثامها في حقنا المسلم و الطبيعي .
 
ولا يمجد في هذا السياق التكيف و القبول المتماهي مع العولمة السائلة لعدة أسباب أهمها أن ظهور الأعياد الدينية في قالب استهلاكي يحفز الغرائز المقيتة كالاستهلاك العظيم ، و كذلك غزيرة البقاء على قيد الحياة لإن الدول التي تتبنى موقف استعماري متحيز بالضرورة لترسيخ النظام العالمي أو مثلما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه العلمانية الكلية و العلمانية الجزئية لتفتيت الهوية المتماسكة و الصلبة ، مما يسهل التحول للسيولة التامة ، غير اعتبار سكان العالم الثالث و الثاني (الشرق الأوسط ، و الأدنى ) نفيات بشرية  بحسب تعيير زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندي ، فقط من يتحمل النتائج الخطرة و الكارثية فقط تحت شعار الانفتاح و القبول !!
 
أما عند الانتقال للإسلام ، فإن الاحتفال من العبادات الدينية التي يؤجر عليها المؤمن ، واقعيًا ، حيث ذهب بعض الصحابة في يوم يحتفل فيه في الجاهلية فابتسم الرسول و قال الحديث الذي يتنسى عن عمد “لكل قوم عيده ، و نحن لنا يوميان الفطر و الأضحى “عيدنا أهل الإسلام ، في أمر واضح لا يحتاج التأويل أو الاجتهاد الفلسفي أو التأويلي فضلًا عن الأجر و الثواب الكبير و عكسه حينما يحتفل بغير عيد الإسلام في الظروف الحيادية و الأحداث العابرة العادية ، و يؤجر عند التنهئة في غير الأعياد الدينية مثل النجاح و الأفراح أو التعازي و الحداد و الفقد .
 
فمرور عام على إبادة أهالينا في غزة ، و السودان يجعل المسلم محرجًا على الفرح ، و أخيه مجوع محروم بما لا يستحمله بشر ، و ينطق به الحجر ، لإن المؤمن أو المسلم السوي و الطبيعي يمتنع عن الاحتفال أو المبادرة به ليس خوفًا أو كرهًا بل احترامًا و توقيرًا لحجم الويل الكبير و الكرب العظيم ، فمن لا يشعر بأخيه أتمت عليه “وسائل الغزو الفكري “أحكامها كما يؤكد الشيخ محمد الغزالي ، أو أطبق على قلبه و عينيه الغشاوة و رقص حين نزف أخواته و إخواته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى