د.أيمن صابر سعيد يكتب : حرب أكتوبر في السرد الروائي رواية “الرفاعي” للغيطاني نموذجًا

حرب أكتوبر في السرد الروائي
رواية “الرفاعي” للغيطاني نموذجًا
بعد حرب أكتوبر 1973م، والتي مثّلت نقطة تحول كبرى في التاريخ المصري والعربي الحديث، على حد سواء، بدأت تتشكل موجة من الروايات والأعمال الأدبية التي تناولت هذه المرحلة الفاصلة، وما تبعها من انعكاسات سياسية ونفسية واجتماعية، وهذه الروايات لم تقتصر على تسجيل وقائع الحرب فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى تحليل النتائج وآثارها على الإنسان العربي، ورصد التحولات والتغيرات التي أثرت في المجتمع والوجدان الجمعي.
فهي لم تكن مجرد مواجهة عسكرية ستتوقف بعد رد الأرض المسلوبة ورد الاعتبار وإثبات الوجود والتفوق القتالي، بل كانت نقطة انعطاف شاملة في الوعي الجمعي، وفي إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان وأرضه، وبين المواطن العربي وتاريخه. هذه اللحظة لم يكن الأدب بمعزل عنها؛ إذ انطلقت أقلام الروائيين لتكتب عن الحرب وما بعدها، محاولة أن تلتقط تفاصيلها، وأن ترسم صورة جديدة للبطولة والآلام والأحلام المتخيلة ومواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية. ومن هنا برز ما يمكن تسميته بـ “روايات ما بعد نصر أكتوبر”، وهي أعمال كتابية لم تسع إلى تمجيد النصر العسكري فحسب، بل سعت إلى البحث والفحص وتشريح الواقع المعيش.
من الهزيمة إلى النصر: تحوّل في المزاج الأدبي
لا يمكن فهم روايات ما بعد حرب أكتوبر دون الإشارة إلى الحياة في فترة ما قبل النصر. فبعد هزيمة يونيو 1967، دارت الرواية العربية في تجسيد تجربة الانكسار وتشخيصها، فامتلأت نصوص تلك الفترة بمشاعر اليأس واللوم والخذلان والبحث عن أسباب الهزيمة. غير أن نصر أكتوبر كان له الفضل في إعادة الثقة للمصريين؛ ومن ثم تحول مسار الرواية من خطاب الانكسار إلى خطاب الفخر والعزة والنشوة والقدرة على استرداد الأرض. لكن هذا التحول لم يكن خطيًّا أو بسيطًا؛ فقد انقسم الأدب إلى اتجاهين: اتجاه احتفى بالبطولة والكرامة، وآخر ظل يطرح أسئلة نقدية حول ما تحقق فعليًا بعد الحرب، خاصة في ظل اتفاقيات السلام وتغيّر الخريطة السياسية والاجتماعية في المنطقة.
رواية “الرفاعي”: البطولة الملحمية والذاكرة الجماعية
من أبرز الأمثلة على الروايات التي احتفت بالبطولة رواية “الرفاعي” (1976) لجمال الغيطاني. والمحور الأساسي في الرواية هو توثيق سيرة البطل “إبراهيم الرفاعي”، اسم قائد قوات الصاعقة الذي استشهد في معارك أكتوبر. لكن الغيطاني لم يكتب سيرة فردية فحسب، بل حوّل الرفاعي إلى رمز للبطولة الشعبية والجماعية والحلم بالنصر والتضحية والفداء؛ فقدّمه بوصفه إنسانا يعيش بين جنوده ويشاركهم الخوف والأمل، وليس كرمز أسطوري بعيد عن الواقع. وهنا تكمن قوة الرواية، إذ استطاعت أن توفّق بين البطولة الملهمة والصدق الإنساني، وقد جاءت الرواية مبنية على المزج بين الوثائق والشهادات واللغة الأدبية التراثية، التي يغلب عليها الطابع الملحمي الشعبي، فيُشعر القارئ أن البطولة ليست حدثًا لحظيا عابرًا، بل قدرًا متجذرًا في تاريخ الأمة العربية عامة، والمصرية خاصة التي لا تقبل الهوان، ولا تعرف طريقا غير النصر أو الشهادة.
السياق التاريخي للرواية
كُتبت رواية “الرفاعي” بعد سنوات قليلة من حرب أكتوبر، حين كان المزاج العام في مصر والعالم العربي متأثرًا بأحداث العبور والنصر، وكانت الحاجة ملحّة لعمل أدبي يوثّق هذه اللحظة الفارقة، ويترجمها إلى نص روائي قادر على أن يخلّدها في الذاكرة الثقافية. والغيطاني، الذي اشتهر بتوظيف التراث واللغة التراثية في أعماله، لجأ هنا إلى أسلوب يجمع بين السرد الأدبي والوثائق الحربية؛ ليجعل الرواية شهادة حيّة على زمن البطولة والتضحية والخلود والوطنية.
البناء الفني
تتميز الرواية ببنائها الفريد، إذ تجمع بين الوثائق الرسمية، والمذكرات، والشهادات، والسرد الروائي. هذا المزج يجعل القارئ في حالة تواصل مباشر مع الواقع، فيشعر أحيانًا أنه يقرأ وثيقة عسكرية، وأحيانًا أخرى أنه يعيش تفاصيل حياة الجنود. كما اعتمد الغيطاني على لغة مكثفة، فيها مسحة من الفخامة المستمدة من التراث العربي، ليمنح النص طابعًا ملحميًا يعكس عظمة التجربة.
شخصية “إبراهيم الرفاعي”
تتمحور الرواية حول شخصية البطل “إبراهيم الرفاعي”، قائد قوات الصاعقة (قائد المجموعة 39 قتال)، الذي عُرف بجرأته وشجاعته في تنفيذ عمليات نوعية خلف خطوط العدو، استهدفت مواقعه ومخازنه؛ مما أصابه بالذعر، وفي الوقت ذاته أكسب المقاتلين المصريين روحًا معنوية عالية. كان يتمتع بصفات إنسانية عظيمة؛ إذ اعتبر رجاله إخوته، يشاركهم التعب والأمل؛ مما جعله قدوة للقوة والعزيمة؛ ومن ثم فهو نموذج للقائد الشجاع؛ إذ يقول لجنوده في إحدى المرات التي تم كشفه من قبل العدو، فطلب منه الجنود العودة؛ فرفض: “ومتى اتجهنا لعدو، وعدنا من منتصف الطريق” (ص 455)، وطريقة اشتباكهم في الحرب “إن الالتحام يكون بالسلاح الأبيض، ليس بالقصف أو الطيران أو المعارك التصادمية للدبابات” (ص 375). خلال حرب أكتوبر ١٩٧٣، خاض مع مجموعته معارك بطولية، وأوقع خسائر كبيرة في صفوف العدو، حتى استُشهد يوم ١٩ أكتوبر في أثناء دفاعه عن أرض الوطن. ترك إبراهيم الرفاعي سيرة خالدة وبطولات تُدرَّس للأجيال، ليظل رمزًا للشجاعة والتضحية والفداء، وهو ما جعل الغيطاني يستغل ذلك في تقديمه ليس بوصفه بطلا عسكريا فحسب، بل بوصفه رمزا للإنسان المصري الذي يهبّ للذود عن أرضه بصدق وإيمان وإخلاص، فضلا عن البطولة الجماعية التي أراد تحقيقها الغيطاني، فعلى الرغم أن الرواية تحمل اسم “الرفاعي”، فإنها في جوهرها رواية عن البطولة الجماعة؛ فكل شخصية في الرواية تؤدي دورًا في صياغة ملحمة النصر؛ لتتجلى صورة الجيش المصري بوصفه كيانا متماسكا يعبّر عن إرادة الشعب.
البعد النفسي والإنساني
من أبرز ما تميزت به الرواية اهتمامها بالجانب النفسي للجنود. فهي تكشف عن لحظات الخوف والقلق، والحنين إلى الأهل والوطن، جنبًا إلى جنب مع لحظات الإقدام والفداء. هذا التوازن أضفى على النص صدقًا إنسانيًا، وأبعده عن النبرة الدعائية المباشرة التي طبعت كثيرًا من كتابات تلك الفترة. وهو ما أكد عليه الغيطاني أن النصر تحقق بجهود بشر حقيقيين، لهم ضعفهم كما لهم قوتهم، عاشوا كآبة الهزيمة وفرحة النصر، وغيروا الواقع المعيش بالأمل والتخطيط والتضحية.
الأبعاد الرمزية والقيمة الأدبية
تجاوزت الرواية حدود التوثيق المباشر لتلامس أبعادًا رمزية أعمق. فـ”الرفاعي” في النص ليس مجرد شخصية تاريخية، بل رمز للتضحية والفداء، وصوت للكرامة الوطنية التي استعادت حضورها بعد سنوات من الانكسار في نكسة 1967م؛ وبذلك تصبح الرواية محملة بمعان كثيرة كالانتماء والهوية والوطنية والفداء. وقد أسهمت رواية “الرفاعي” في ترسيخ ما يمكن تسميته بـ”أدب الحرب”، وهو الأدب الذي يتناول المعارك والبطولات وما تخلفه من آثار إنسانية، ويسير جنبا إلى جنب مع التاريخ. وقد برع الغيطاني في أن يوازن بين الصياغة الفنية الدقيقة والتوثيق التاريخي؛ مما جعل الرواية مرجعًا أدبيًا وتاريخيًا في آن واحد أو يمكننا أن نقول إنها نموذج للسيرة في أدب الحرب، والسيرة هنا “سيرة غيرية” كتبها الغيطاني عن البطل الشهيد “إبراهيم الرفاعي”؛ فضلا عن أن أسلوبه التراثي الممزوج بالمعاصرة منح النص فرادة عن غيره من الأعمال التي تناولت الحرب، وقدمت رسالة مفادها أن التضحيات لا تذهب هباءً، بالإضافة إلى أنها ألهمت كتّابًا آخرين لمواصلة الكتابة عن الحرب؛ كلٌ من زاويته الخاصة؛ مما أسهم في إثراء المشهد الأدبي العربي؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الحرب في بر مصر، ليوسف القعيد (1978) وغيرها.
وهكذا، فإن روايات ما بعد حرب أكتوبر قدمت إسهامًا فنيًّا وفكريًّا كبيرًا في الأدب العربي. فهي نصوص متعددة الأصوات، تنوعت بين الملحمي والتأملي والنقدي، لكنها اجتمعت على هدف واحد؛ وهو أن تجعل من الحرب حدثًا أدبيًّا فريدًا، يتجاوز حدود المعارك إلى آفاق أوسع تتعلق بالإنسان والمجتمع والهُوية. وإذا كان نصر أكتوبر قد أعاد للأمة كرامتها على الأرض، فإن هذه الروايات قد أسهمت -بامتياز- في تخليد تلك الكرامة في صفحات الأدب؛ لتظل شاهدة على زمن التحولات، ومرآة صادقة لروح أمة ما زالت تبحث عن خلاصها، وتحيا في ظل مجدها التاريخي وبطولاتها الحقيقية.

















