د.أيمن صابر سعيد يكتب: الشاعر أمل دنقل رحلة عذاب وإبداع

الشاعر أمل دنقل رحلة عذاب وإبداع .. لا يزال الحديث عن شاعرنا الجنوبي أمل دنقل موصولا بجدائل قوية يشد بعضها بعضا، يصعب الفكاك منها، تجعلنا نتأمل كل كلمة، وكل جملة قالها الشاعر المبدع، خاصة أن شعره الحديث القديم في آن واحد امتد زمنا أطول بكثير من عمر الشاعر القصير، وسيظل يمتد بين الأجيال القادمة نابضا حيا؛ فهو الشاعر المصري المولد والمنشأ، ابن محافظة قنا، من الحياة حتى الممات، الحالم كأبناء جيله بقومية عربية موحدة؛ فالدم الذي يجري في عروق كل إنسان يعيش على الأراضي العربية هو دم واحد، ومن ثم؛ فالهم واحد، والحلم واحد، والعدو واحد، وهو ما كان يسيطر على عقل الشاعر وفكره، في كل كلمة، وفي كل نداء واستفهام وأمر واستعطاف وتمن، وهو يخاطب به أولي الألباب المتمثل في الأمة العربية والموجه إليها كلامه؛ فيطلق -على سبيل المثال- صرخة مدوية في هذا العالم المستكين، القابع في نفق مظلم بعيدا عن النور والأمل:
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
إنها النزعة العربية القومية السائدة في شعره، النابعة من بيئته الجنوبية الصعيدية، وما تحمله من مبادئ وقيم وأخلاق، فهو لا ينسى ذلك أبدا، وينثره في ثنايا قصائده، ويعيش في غربة أبعدته عن أرض ومنبت هذه العادات والتقاليد والمبادئ، ولكنه يظل مشدودا إليها، مهما بعدت المسافات، وطال به المقام خارج بيئته التي نشأ فيها، وإن لم يتمكن من العودة إليها حيا، فسيطلب أن تكون نهايته في ترابها، وهذا ما حدث مع الشاعر أمل دنقل المقاتل الصلب الذي عاش أزمة الوطن وحلم القومية العربية؛ حيث كانت وصيته كما ذكر الشاعرالجنوبي عبد الرحمن الأبنودي: “وقبل حوالي ثلاثة أشهر أدرك بشفافيته أن أيامه معدودة؛ فقال لزوجته ولي سيناريو كاملا لما يريده بعد وفاته- قال كل ما له وما عليه، وطلب أن يدفن أمام مقبرة أبيه في قريته، وعندما ذهبنا لدفنه وجدنا (مصلى) في المكان الذي حدده؛ فاستأذنا وحفرنا له فيها قبره، لقد صعقت وأنا أشاهد جسده عندما غسلناه بعد وفاته، كان جسدًا متحللًا، كيف عاش هذا تحت هذا الجسد؟ أليست معجزة”.
وإذا كان المخلصون عشاق تراب الوطن، يقاومون عدوهم طوال الوقت؛ فقد عاش أمل دنقل يقاوم المرض وعذاباته وآلامه، تقول زوجته عبلة الرويني: “كان أمل جميلًا حتى في الموت، كان أصدقاؤه يقولون له تحمل يا أمل الألم، قاومه، وكان يرد: أنا لا أملك إلا أن أقاوم، كان يقول لي: أنا لا أخاف الموت لكن أخاف العجز، عندما عجز أمل عن الحركة قبل وفاته بثلاثة أيام، وأصيب بشلل في كل جسمه أدركت أنه قد مات، طوال فترة مرضه لم يتخل عن دعابته وسخريته مع أصدقائه الذين كانوا يزورونه، والذين لم يفارقوه في الفترة الأخيرة، عبد الرحمن الأبنودي، والدكتور جابر عصفور، والدكتور عبد المحسن طه بدر، وفاروق شوشة، كان يوصيهم أن يتماسكوا ساعة الموت، إن أمل إن كان قد عاش طوال السنة الأخيرة فهذا بسبب حب الناس له”.
وها هو ينقلنا إلى صورة مقربة من عذابات المرض وآلامه، وجو المستشفيات الكئيب، وما بعد الوفاة؛ فقد عاش المرض بصعوباته كافة، وعاش الوفاة قبل الوفاة، مجسدا ما يقال بين الناس بأن الميت يكون على علم باقتراب أجله، ولكن حالته الصحية والمالية صعبة جدا، حتى إن زملاءه طالبوا بعلاجه على نفقة الدولة، وهو ما تمت الاستجابة إليه بعدما تدخل الزملاء والأصدقاء والكتاب، وكان على رأسهم يوسف إدريس، وبدأوا أيضا في حملة لطلب المساعدة؛ فيقول واصفا هذه لحظات المعاناة والألم:
”كان نقاب الأطباء أبيض
تاج الحكيمات أبيض
الملاءات
لون الأسرة
أربطة الشاش والقطن
قرص المنوم
أنبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن
فلماذا إذا مت
يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد
هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن”.
كان أمل دنقل يحيا حياة بسيطة، وإن شئت فقل أقل من البسيطة؛ حتى الحب الذي ظهر في حياته، والذي ربما لم يفكر فيه قبل ذلك بسبب ظروفه القاسية، لم يكن مستعدا له؛ فقد كان اللقاء الذي جمعه بزوجته في خريف 1976؛ فهي صحفية من القسم الثقافي بجريدة ”الأخبار”؛ وقد حضرت لتجري حوارًا معه، وكان في مقره الدائم بمقهى ريش، وكان هذا اللقاء ولادة الحب الذي تحول سريعًا إلى خطوبة وزواج 1978.
كانت الصحفية البطلة هي عبلة الرويني، ولأن الشاعر لم يكن يملك سكنًا للزواج، ولا مالًا ليهيئ هذا السكن؛ فأقام مع عروسه في غرفة بفندق مؤقتا بشارع 26 يوليو منذ بداية عام 1979، ومن الجدير بالذكر أن شاعرنا أمل قد ولد بمشكلة صحية، وفي سن التاسعة أجريت له عملية جراحية في محافظة قنا، ويبدو أن العملية كانت فاشلة، وكان نتيجة لذلك أن المريض معرض للإصابة بالسرطان في سن الأربعين، وهذا بالضبط ما حدث؛ فقد بدأ السرطان يهاجم أمل بشراسة؛ فدخل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك نقودًا لمثل هذا العلاج من المرض الخبيث الباهظ التكلفة، فهي علامات على النهاية:
”أيها السادة: لم يبق اختيار
سقط المهر من الإعياء
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف..
وفي الظهر الجدار”.
يقول أمل دنقل عن الوظيفة الشعرية التي عايشها، من خلال تجاربه وأشعاره: ”إن الشاعر هو المعبر عن ضمير أمته، المعبر عن أنبل ما فيها وأعرق ما فيها من تقاليد أو تراث، وإذا لم يكن الشاعر على درجة كبيرة من الوعي تسبق كثيرًا أفراد أمته بحيث يقوم بدوره الريادي، فإن هذا الشاعر يسقط في أحد اختيارين: إما التقوقع داخل الذات انسحابًا، وإما التألق الكاذب والانتهازي؛ ولذلك فإن وظيفة الشاعر ليست اختيارية، وإنما هي حتمية، فالشاعر الذي يريد أن يعبر عن ذاته لا بد أن يرتبط بالآخرين لكي يكشف هذه الذات أولًا؛ لأن الشاعر ليس جوهرة فريدة في حد ذاته، ولكنه إنسان كالآخرين، وهو يتميز بالوعي الذي لا يأتي عن طريق الإلهام، وإنما عن طريق التلاحم الحقيقي بالآخرين والمجتمع، ومن هنا فإن قضية الشاعر الاجتماعية هي التي تحدد منهجه ومساره الشعري حتى النهاية…”.