منوعات

د.أيمن صابر سعيد يكتب: ليس دفاعًا عن طه حسين (7)

 

وبعد أن عرضنا في المقالات السابقة الاتهامات الأربعة الموجهة لطه حسين، ودفاعه عن نفسه، وهو الحق الأصيل الذي يكفله القانون، وينتهي التحقيق بكتابة كل ما في جعبته، ويختتم بسؤاله: هل لديك أقوالا أخرى؟ فتكون الإجابة بالنفي (لا)؛ وبذا يكون طه حسين قد أدلى بأقواله كاملة،

 

وهنا تبدأ مرحلة جديدة بسؤال آخرين، إن تطلب الأمر، في حالة الإشارة إليهم، أو في حالة رؤية رئيس النيابة ذلك، وبعد أن يستوفي التحقيق كل عناصره، تأتي المرحلة الأخيرة التي يقوم به رئيس النيابة، والمتمثلة في مناقشة كل هذه الأقوال في ضوء الشكوى المقدمة ونصوص القانون ومواده بهدف الوصول إلى نتيجة التحقيق والحكم فيه وحيثياته؛

 

حيث كفل القانون لأطراف التحقيق -في مرحلة ما بعد الحكم والنتيجة النهائية- الطعن عليه، في حالة الاعتراض ووجود ما يبرر ذلك؛ كإغفال التحقيق لعناصر معينة أو عدم استيفائها.

ونؤكد ما أكدناه سابقا بأننا أمام قضية مختلفة، بين طه حسين وأحد رجالات الأزهر الشريف، الذي حاول ربطها بازدراء الأديان، ووصل الأمر إلى تكفير من يذهب إلى ما ذهب إليه طه حسين وأمثاله، ووجوب محاكمتهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر.

وهنا نأتي إلى دور رئيس نيابة مصر في ذلك الوقت محمد نور، والذي نشر حكمه –على نفقته الخاصة- في كتاب؛ ليكون درسا قانونيا ثقافيا تنويريا للأجيال التالية، فبدأ بتأكيد أن النظام الدستوري المصري للدولة المصرية يقوم على أن حرية الاعتقاد مطلقة بغير قيد أو شرط، وأن حرية الرأي مكفولة، ومن حق كل إنسان أن يعرب عن فكره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو بغير ذلك في حدود ما يسمح به القانون،

 

وأكد طبقا لما جاء فيه بأن الإسلام دين الدولة، وأن قانون العقوبات الأهلي نص على عقاب كل تعد على أحد الأديان التي تؤدي شعائر علنا بإحدى طرق العلانية بأنه جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن لا بد من توافر أربعة أركان أساسية في مثل هذه الجرائم، وهنا نطرح سؤالا مهما: هل تحققت هذه الأركان في هذا الاتهام حتى يصير جريمة يعاقب عليها القانون؟

 

وأما عن هذه الأركان الأربعة التي تحكم هذه القضية المتعلقة بازدراء الأديان والتعدي عليها علنا بهدف القصد الجنائي؛ فتفصيل ذلك على النحو التالي:

أولا: لم يذكر القانون بشأن هذا الركن في المادة إلا لفظ “تعد”، والمواد المتعلقة بشأن انتهاك الحرمة والإهانة، فيفهم منها “أن كل مساس بكرامة الدين أو انتهاك حرمته أو الحط من قدره أو الازدراء به؛ لأن الإهانة تشمل كل هذه المعاني بلا شك”، وبالرجوع إلى ما كتبه طه حسين في كتابه نجد أنه “بحث بريء من الوجهة العلمية والدينية أيضًا، ولا شيء فيه يستوجب المؤاخذة لا من الوجهة الأدبية ولا من الوجهة القانونية”، ومن ثم فلا يمثل -كما جاء في الشكوى- تعديا على الدين الإسلامي أو انتهاكا لحرمته أو مساسا به؛ فيما جاء في قصة سيدنا إسماعيل وسيدنا إبراهيم، أو فيما جاء في نسب النبي –صلى الله عليه وسلم، أو فيما يتعلق بعلم القراءات القرآنية.

 

وأما عن الركن الثاني فلا حاجة للخوض فيه؛ لأن الطعن السابق بيانه قد وقع بطريق العلنية، في كتاب مطبوع ومنشور وموزع في المحلات.

 

وأما الركن الثالث؛ فلا خلاف فيه؛ لأن القول بالتعدي وقع على الدين الإسلامي، وهو الدين الرسمي للدولة، الذي تؤدى شعائره علنًا.

 

وأما الركن الرابع، وهو الركن الأدبي الذي يجب أن يتوفر في كل جريمة، فلا عقاب عليه؛ إذ لم يثبت الدليل على توفر القصد الجنائي لمعاقبة المؤلف، وكذلك لم يثبت أنه أراد مما كتبه التعدي على الدين الإسلامي.

 

هذا وقد “أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال إنه ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشيء، وقد أشار في كتابه تفصيلًا إلى الطريق الذي رسمه للبحث، ولا بد هنا من أن نشير إلى ما قرره المؤلف في التحقيق من أنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل وما يتصل بهما مما جاء في القرآن، ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث…”، وهو ما نشره أيضا في مقال فسر فيه نظريته بأن “كل امرئ منا يستطيع إذا فكر قليلًا أن يجد في نفسه شخصيتين متمايزتين؛ إحداهما: عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس، والأخرى شاعرة تلذ وتألم وتفرح وتحزن وترضى وتغضب وترغب وترهب في غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذي يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى”، وهو ما نفاه واعترض فيه على نفسه وعجز عن الجواب بقوله لرئيس النيابة بأنه “ستقول وكيف يمكن أن تجمع المتناقضين، ولست أحاول جوابًا لهذا السؤال، وإنما أحولك على نفسك…”، وكذلك في حديثه عن الخلاف القائم بين العلم والدين؛ فقد أجاب هو نفسه بأنه لا يمكن تحقيق انتصار لأحدهما على الآخر إلا بأن ينزل أحدهما إلى الآخر، متنازلا عن شخصيته كلها.

وأما عن وجود قوتين من وجهة نظره؛ قوة عاقلة تختص بالعلم، وأخرى شاعرة تختص بالدين، فيرى رئيس النيابة بأن هذا ما لا ندركه في أنفسنا؛ إذ إن العقل قاسم أساس مشترك بين العلم والدين في آن واحد، في ضوء معرفة بأنفسنا، أما الدكتور طه حسين؛ فقد يكون محقا فيما يقول ولديه قدرة في هذا الشأن، وما ذلك على الله بعسير.

 

وأما فيما يتعلق بالبحث عن حقيقة نية المؤلف؛ فسواء صحت نظرية وجود شخصيتين مختلفتين، أو لم تصح، فإن ما جاء في كتابه كتب عن اعتقاد تام. وهناك فرق كبير بين أن يكون “قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء، وتعمد الخطأ المصحوب بنية التعدي شيء آخر”، وهو ما يمكن قوله بأن ما جاء في كتابه على سبيل “تخيلات وافتراضات واستنتاجات لا تستند إلى دليل علمي صحيح، فإنه كان يجب عليه أن يكون حريصًا في جرأته على ما أقدم عليه مما يمس الدين الإسلامي الذي هو دينه ودين الدولة التي هو من رجالها المسؤولين عن نوع من العمل فيها، وأن يلاحظ مركزه الخاص في الوسط الذي يعمل فيه- صحيح أنه كتب ما كتب عن اعتقاد بأن بحثه العلمي يقتضيه، ولكنه مع هذا كان مقدرًا لمركزه تمامًا، وهذا الشعور ظاهر من عبارات كثيرة في كتابه منها قوله: وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سليقونه ساخطين عليه، وبأن فريقًا آخر سيزورون عنه ازورارًا، ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث”.

ويؤكد رئيس النيابة بأن لطه حسين فضلا كبيرا لا ينكر؛ حيث إنه سلك “طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكنه لشدة تأثير نفسه مما أخذ عنهم قد تورط في بحثه حتى تخيل حقًا ما ليس بحق، أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات، إنه حق أنه قد سلك طريقًا مظلمًا، فكان يجب عليه أن يسير على مهل، وأن يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكنه أقدم بغير احتياط؛ فكانت النتيجة غير محمودة.”

الحكم في القضية

وهنا نأتي إلى النتيجة النهائية للتحقيقات، والتى سطرها رئيس النيابة للتاريخ “وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها” .وبذا يكون القصد الجنائي غير متوفر؛ فجاء حكم رئيس نيابة مصر في القاهرة في ٣٠ مارس سنة “١٩٢٧: “تحفظ الأوراق إداريًا”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى