د. أيمن صابر يكتب: ليس دفاعا عن طه حسين(4)

لا يزال الحديث قائما عن قضية كتاب “في الشعر الجاهلي” في النقطة الأولى؛ حيث يواجه رئيس نيابة مصر- في ذلك الوقت- طه حسين بما جاء في الشكوى فيما يتعلق بتمحيص القول بإهانة الدين الإسلامي وتكذيب القرآن فيما جاء من أخبار عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- واستكمالا للتحقيق في هذه النقطة التي قعد لها رئيس النيابة بأنه لا يجوز انتزاع العبارات من سياقها، والسياق العام للكتاب المتمثل في دراسة وبحث موضوع أدبي لا ديني
وقد أكد أن طه حسين عجز عن التدليل على صحة ما ذكره في هذا الشأن، وصدم المجتمع في أحد الثوابت الدينية، وخرج من بحثه بلا إجابة أو دليل، وإنما هو خيال في خيال
والدليل على ذلك من عباراته المذكورة أقواله: (فليس ببعيد أن يكون/ فما الذي يمنع/ ونحن نعتقد/ وإذن فليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة/ وإذن فنستطيع أن نقول!!!)،
وهي كلمات فضفاضة لا تؤكد نتائج ولا تبرهن على حقائق، وإنما هي ضرب من التصورات والتوقعات والخيالات والأوهام لا تصح في بحث هذه المسألة الصعبة.
وحين سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة “القصة”، وهل هي من استنتاجه أو نقلها. فقال: “فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن مثل هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين، ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي”،
وسواء كان هذا من تلقاء نفسه أو نقلا عن أحد المبشرين فلا دليل عليه، ومن ثم فهو مردود على قائله
وهو ما دفع رئيس النيابة للقول بوضوح شديد لا ميل فيه ولا محاباة: ” إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب، وأخطأ أيضًا في تفسير ما كتب، وهو في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن، وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلًا عن الدين…
الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه؛ لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرًا لأن يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام… حقًا إن الأستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم بغير ضرورة يقتضيها بحثه ولا فائدة يرجوها…”.
وقد حاولنا في ضوء النقطة الأولى وإجابات طه حسين أن نتوقف عند أمر غاية في الأهمية والخطورة، وهو: ما هي أبرز مقومات شخصية طه حسين، وما علاقة ذلك بالعبقرية؟ واستعنا في ذلك بأهل التخصص والتحليل النفسي، تقول الدكتورة رضوى إبراهيم:
كثيرة هى الكتابات التي نشرت عن طه حسين، فما زال عميد الأدب العربى يجتذب المؤلفين والباحثين والدارسين في شتى المجالات؛ فالجميع يعتقد أنه يعرف طه حسين، وعميدنا يغري الجميع: بأسلوب يتدفق سهلا سلسًا لا التواء فيه، ويبدو واضحا شفافا؛ سواء اتسم بطابع الحديث الحميم أو بجلال الأستاذية والخطابة الفخمة، وأسلوبه يغري خصومه والمعجبين به على السواء، ويوهمهم جميعًا بأنهم يفهمون مراميه، والكل لا يدرك أن السطح الأملس الشفاف يخفي فكرا يعتمل بالتوتر والتناقض.
ونحن بصدد محاولة لاستكشاف تلك الأعماق المضطربة؛ فهو يتقصى سريعا شخصية “طه” في مراحل مختلفة، ويقدم من ثم جزءا من دراسة نفسية عن حياته الفكرية .. بإلقاء الضوء في عدة مواضع من أهمها تعرضه لاضطرابات نفسية عنيفة -جميعها- تندرج تحت أمراض القلق النفسى، وبما يتسق مع فهم حالته الفكرية غير المستقرة التي كانت تتسم بها مراحل حياته،
وأيضًا تناول خبرته الحياتية لمحاولة استيعاب مواقفه الأساسية من الحياة التي استمر يبذلها في مراحل نضجه لمصارعة التناقضات الناجمة عن التزامه بوضعيته في تعليمه، وفي شبابه ونضوجه، وفي حدود التعليم النظامي الذي تلقاه في مصر وفرنسا.
إنه لمن السذاجة أن نتخيل أن أزهريا مثل طه حسين يمكن أن يتحول إلى الإيمان الصارم بالعقلانية والعلم دون أن يكون لذلك التحول نتائج خطيرة مزلزلة، أو نتصور بأن حياته سارت بهدوء أو يسر حتى ولو كان ممثلًا بارعًا يؤدي دورًا لا صلة له بواقع الأمر
فنحن بإزاء رجل متمرد متشكك لم يتورع عن الانقلاب على نفسه مرة بعد مرة، وليس من حق الدارس أن يتحاشى النظر في أوجه القلق والتقلب الانفعالي، وفيما ترتب على ذلك من مشكلات حقيقية شائكة.
ها نحن نتعرض إلى الصورة الأكثر حيوية ونشاطا لذلك “المفكر القلق” الذي لم يحقق الاستقرار إلا في مرحلة متأخرة من حياته، ولم يكن الاستقرار عندئذٍ إلا نسبيًا، وهنا يجب أن نفرق بين نوعين من المسميات: القلق المرضى؛ والعصابى أو العصاب؟
فأما الأول فإنه يعني حالة من التوترات الشديدة يصاب بها الفرد ويصاحبها مجموعة من الأعراض وتغيرات تمس الأركان الرئيسية الثلاثة لشخصية الإنسان أي الجانب العضوي- العضلي، وجانب الوجدان أو الإحساس أو الشعور، ثم جانب التفكير، وأما الثاني فهو مصطلح جرى على استخدامه علماء النفس والأطباء النفسيون لوصف طائفة من الأمراض النفسية التي يتميز أصحابها بالانفعال الشديد، وعدم الاستقرار النفسي، والتقلب الانفعالي. وتسيطر على العصابين أعراض مرضية متنوعة منها الخوف والقلق، والأحزان النفسية (الاكتئاب)، والوساوس الفكرية.
إذن -يحق لنا أن نقول- ما كان يعاني منه “طه حسين” هو هذا النوع من “القلق الحاد” الذي فرض وجوده وشعوره بالإحباط إزاء عاهته جاء على شكل وعي حاد بدأ منذ سنواته الأولى، ولم يفارقه طيلة حياته بأن النفاذ الى العالم ممتن عليه كأنه محجوب وراء ستار صفيق أو باب مغلق، بيد أن الحاجز في حالة طه لم يكن مجرد عائق يحول بينه وبين العالم
فقد كان يشعر أيضا بأنه خطر حقيقي يهدد وجوده ذاته، وكان العمى ينطوي بالنسبة له على كل المخاطر التي تنجم عادة عن الاعتماد على الغير، وكان أسوأ هذه المخاطر أن يعامل معاملة الشيء. والأدهى من ذلك أن طه “بطل الأيام” كان ينتهى به الأمر أحيانًا إلى الشك في وجود العالم الخارجي، بل وفي وجوده هو نفسه .
ولذلك كان التغلب على ذلك الحاجز مسألة حياة أو موت، وهنا دوافعه القلقة كانت تسوقه يجد لنفسه موطئ قدم في العالم وإلا فقد نفسه، ومن ثم اقترن هذا الوعي (التوتر) الحاد بذلك الحاجز الخانق بدافع لا يقل قوة إلى تخطيه.
والواقع أن “طه حسين” ظل طيلة حياته ككاتب يحاول أن يوفق أو يؤلف بين عدة ثنائيات أو مناقضات، وقد يفيدنا القول هنا أن نتوقع محاولاته -هذه- كانت إصرارا على مواجهة أعراض اضطرابات القلق الحاد بمفهومنا الإكلينكي، والتي -وبدون شك- لم يكن لديه علم بها حينذاك.
وقد يكون من الأهمية أن نتعرف على الأعراض المضطربة التى يتعرض لها مرضى القلق بشكل عام، ويحدثنا علماء النفس عن القلق بأنه حالة وجدانية غير سارة تتسم بالخوف والتوجس وتوقع الأخطار والكوارث، وليس -بالضرورة- هذه الأخطار حقيقية، بل يكفى أن يراها الفرد كذلك. والقلق خبرة بشرية عامة عانى ويعاني منها كل فرد دون استثناء، وما يميز المرضى بالقلق عن الأفراد العاديين هو أن هؤلاء المرضى يختبرون مواقف القلق في غالبية الوقت، ويختبرونه بدرجات أشد من الآخرين، وعلى الرغم من أن بعض الناس قد يتصور أن القلق علامة على المرض، فإن هذا غير صحيح لأن هناك حالات من القلق المحمود الذي يدفع الإنسان إلى النشاط والإعداد للمستقبل ومواجهة الأخطار الفعلية، ومثل هذا النوع من القلق يختلف عن ما يسمى بالقلق العصابي أو القلق المرضي.(وللموضوع بقية)