اخبار عالمية

كل الطرق تؤدي للصفقة: دلائل و تداعيات عقد وقف إطلاق النار في غزة

كتب/ مصطفى نصار
في يونيو ٢٠٢١ ، وقف القائد الشهيد يحيى السنوار من مدينة غزة و خطب وسط جمع غفير من القادة و مقاتلي حماس، مؤكدًا أنه سيجعل الاحتلال ينعزل دوليًا و قانونيًا بقوة ، و كذلك سيجعل المجتمع الدولي عدوًا له ، و أن هذه المدينة “ستفضح جميع المتواطئين و المتنازلين و المنسقين “،مع إعلانه فترة محددة للقيام بذلك تتراوح بين السنة و السنتين ، تاركًا لإسرائيل كارثة محققة بعد الطوفان في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣م.
 
و من اللافت للنظر أن خطبة السنوار في ذلك الوقت لم تتأخذ على محمل الجد ، لإن العالم قد تعود على أن إسرائيل معصومة ، و أن القضية الفلسطينية كانت على وشك الموت أو في مرحلة الموت السريري ، و خاصة بعد التطبيع الرسمي لثلاث دول مع الكيان الإسرائيلي ، معلنين قدرة إسرائيل العالية على تجنيد القانون الدولي،  فضلًا عن زيادة الغطرسة الإسرائيلية بهجومها الشرس و العنيف على مسيرة العودة الكبرى التي امتدت طيلة ٧ أشهر من مايو لديسمبر ٢٠١٩ . و مثلث الاقتحامات و زيادة الاعتداءات على الشيخ جراح المشهد الأخير قبل الانفجار المنطقي في هجوم السابع من أكتوبر.
 
فإن الصفقة المعقودة حاليًا بين إسرائيل و حماس تحقيق لعدة أهداف استراتيجية و عسكرية،  منها على سبيل المثال تبيض السجون الإسرائيلية تمامًا ، و إخضاع إسرائيل لها بإجبارها على عقد الصفقة التي زعمت و روج نتنياهو لخطورتها و استحالة تطبيقها على الواقع دون القضاء على حماس عسكريًا ، فلا يمكن القضاء على حركة طالما أنها تنتمي من الشعب،  و تجند أشخاص تضاهي عدد شهداء الحركة ، و لعل هذه النقطة جعلت أنطوني بلكنين وزير الخارجية الأمريكي بأنها غير قابلة للهزيمة و استمرارية التجديد و التطور حتى تحت النيران . و بالتالي ، انقسم اليمين الإسرائيلي الفاشي على نفسه معتبرًا على لسان إيتمار بن غفير “‘استسلامًا “إسرائيليًا .
 
تتمثل أبرز علامات النبوءات المتحققة للسنوار في مطاردة جنود الاحتلال  عبر الدول و فيها ، ما يعكس العزلة العنيفة و الشرسة بعد فرض الأحكام الجنائية ، و صدور حكم نهائي من محكمتي العدل الدولية و الجنائية الدولية بأن إسرائيل،  و مجرمي الحرب نتنياهو و جالانت قد ارتكبا جرائم حرب ، بينما حكم على الدولة بأنها ترتكب إبادة جماعية بعد أن قامت جنوب أفريقيا برفع قضية في ديسمبر عام ٢٠٢٣ م ، إذ أن إعلان الدول عن تطبيقها للقرارات يفيد بمدى هشاشة و ضعف الدعاية و الصورة الإسرائيلية التي وصلت لها بفعل حرب إبادية متكاملة الأطراف و الأركان ، من القتل و التشريد و التنكيل  و التهجير . ووصل الأمر لدرجة جعل أيرالندا تغلق سفارة إسرائيل في دبلن ، و تحويلها لمتحف تاريخي لفلسطين خاصة ، و اعتراف أسبانيا و السويد و النرويج بدولة فلسطين التاريخية ، بالإضافة لنيل عضويتها الكاملة للأمم المتحددة مما كون لها كيان تاريخي و قانوني على المستوى الدولي .
و أكملت المرحلة الثانية ، و الثالثة من العزلة و الهزيمة الدولية فباتت بحديث الأكاديمين و الغربين بحرية أكبر ، ووصمت الكيان الإسرائيلي أنه دولة فصل عنصري و احتلال و خاصة عند الشباب و الفئة الأكبر منها أي الأربعنينات ، مما دفع ترامب لوضع الحرب على قائمة أولوياته برغم إيماناته المسيحية الصهيونية،  و كذلك فريقه الحكومي المقترح من الصقور الصهاينة .
 
المصيدة الموصدة :مأزق نتنياهو بين عقد الصفقة أو عقد الاعتزال الإجباري للسياسة .
 
فشل نتنياهو في حربه على غزة ، و في القضاء على حماس لعدم وجود خطة من الأساس و الاعتماد على العشوائية و البربرية المركزة بالشكل الأساسي على المدنيين العزل ، فارتكب بتلك التعجل حمقاوات متنوعة مفادها أنه حقق لإسرائيل أكبر فشل على جميع المستويات بدء من الاستراتيجي الذي أكد فيها أستاذ السياسة الدولية ستفين والت أنه فشل مدوي للاستراتيجية العسكرية في إسرائيل التي طالما دفنت “العوار الواضح للحروب الطويلة عبر خوضها حروب قصيرة تنم عن عقيدة عسكرية واضحة و شفافة “، و لعل والت يقصد العقيدة الذي وضعها المؤسسون الأوائل للكيان الإسرائيلي مثل بن غوريون و آرئيل شارون .
 
علاوة على ذلك ، فإن نتنياهو لن يستطع الإفلات من الصفقة لعدة عوامل منها عدم تحقيق الأهداف المعلنة من القضاء على حماس ، و تحرير الأسرى من عمليات عسكرية مثل النصيرات التي كانت بمثابة الحفرة التي أودت بالحكومة لنار جهنم دوليًا و محليًا لكنه سيستغل كذلك الانتصارات التي حققها على مستوى جبهتي لبنان و اليمن باغتيال الصفين الأول و الثاني من الحزب،  و من ثم اللعب على وتر عودة الأسرى داخليًا.
 
و لهذا السبب، غير نتنياهو نبرته الحادة في الحديث من الوعيد للقضاء على حماس في نوفمبر ، و أكتوبر من العام الماضي ٢٠٢٤ ، للانتظار من حماس الموافقة على الصفقة من رئيسها الجديد محمد السنوار الذي ما زال يجدد و يعيد تجنيدات قوات في حماس لدرجة وصلت بأن مقال وول ستريت جورنال وصف السنوار بمجدد حماس التي تجند قوات ضعف ما تخسره لوجود الحاضنة الشعبية الضخمة ، و لإن إسرائيل انتقمت أشد انتقام من كافة العائلات التي مات لها على الاقل فرد من أسرتها موفرا بذلك دافع قوي و مستمر للانتصار على إسرائيل،  و الانضمام للمقاومة.
 
و حقق بذلك الشعب الغزي صمودا لا مثيل له ، أظهر من خلاله قوة الصبر و شرف الصمود فضلًا عن اللحمة الاجتماعية ، ووعيهم بمدى عدالة القضية و إنصاف مشروعيتها السياسية و الدينية ، أو مثلما يقول الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي أن نتنياهو لا يريد أن يضع حدًا لتلك الحرب ، بفعل الانتقام و التشفي  التي يريده لاستمرار الحرب و إكمالها للنهاية ، و بفعل فشله الذريع في الحرب لم يتركه الإعلام العبري ناقدًا إياه بقسوة شديدة،  و اعتبرت كلا من يديعوت أحرونت و يسرئيل هيوم أن فشل نتنياهو ، و رئيس الأركان هارتسي هاليفي شهدا هزيمة مدوية و كبيرة بعدما أخفقا كليهما في تحقيق أهداف الحرب .
 
و بلغت درجة النقد أن إيهود باراك أكد أن الصفقة كانت يجب أن تتم من ٧ أشهر ، متفقًا مع جيورا آيرلاند صاحب فكرة خطة الجنرالات إن فشل إسرائيل على المستوى العسكري و الاستخباراتي كان هائلًا و مدويًا لدرجة أن بعض الصحف و القنوات العبرية وصفوا القرار بالاستسلام المخزي و الهزيمة المدوية . مخالفًا لما أراده نتنياهو ، فإن الحل العسكري أثخن في الاحتلال بأكثر من ٤٠٠ كمين مفخخ ، بدء من الكمائن الكبيرة مثل الشجاعية و جباليا ، مرورًا بخان يونس و نهاية برفح و مدينة غزة ، محققًا دعوة الباحث أوردي كونين الباحثة في مركز سيدني للاستراتيجة و التكنولوجيا أن حماس تحتاج خطة أكبر و أعقد بكثير من مجرد القصف و الجانب العسكري من الإبادة و القتل و التهجير .
 
نصر غزة :لمن السيادة و العزة الضخمة؟!
 
في نهاية المطاف ، تخلت إسرائيل ، و على رأسها بنيامين نتنياهو ،عن فكرة الغطرسة و الغرور المركب و التفاخر الذي ذهب به للصد عن طريق الهدنة الذي ظن أن القضاء على حماس بالفعل أمر وارد و محتمل. لكن الأزمات الداخلية في الكيان من فشل الحكومة و الخسائر الاقتصادية و تزايد وتيرة المظاهرات لأهالي الأسرى التي مثلث أزمة داخلية كبيرة و عميقة تزيل القناع عن عنصرية و استقطاب هائلين ، عبر عنه شلومو ساند من قبل عن حالة الهيستريا العنصرية المبنية على أساس ديني في كتابه عرق متوهم .
 
لكن بنود الهدنة تهدم تلك العنصرية الجوهرية لإنها تتضمن الإفراج الكاملة عن الأسرى فيما يقارب الأربعة شهور و نصف ، تتضمن المرحلة الأولى منها الإفراج عن ١٢٥٠ أسير فلسطيني مقابل ٥٠ رهينة إسرائيل مع دخول ٦٠٠شاحنة نصفهم على الأقل من المواد الغذائية و الوقود لإعادة تشغيل آخر مستشفين باقيين في القطاع ، و التوجه للشمال المحاصر بالمواد الغذائية و المياه ، لتكتمل المرحلة الثانية من الهدنة بنفس المنوال ، و تنتهي المرحلة الآخيرة بتسليم الرفات و الجثث المحتجزة لدى الطرفين .
 
يدل الإعلام العبري هذه الأيام من نقده القاسي و الشديد لحكومة نتنياهو على حجم النصر الهائل لحماس ، بل و كما قال المحلل الإسرائيلي ألون مزراحي بأن الفشل الذريع للحكومة أثبت متانة و صلابة حماس ، و هو ما اتفق معه الصحفي الإسرائيلي  ريو هويناشتين بان لو لم يقتل السنوار لكان أب الأمة العربية كلها،  و حتى أهالي الأسرى اعتبروا أن تلك الصفقة المدوية العد التنازلي لعملية ٧ أكتوبر المقبلة مثل تسفكيا والدة الأسير إيتان مور .  و بالتالي،  انتصار حماس في جميع الحالات حتمي و يقيني لا للخسارة و التضحيات بل لإنها من ملك المعركة في هذه الحرب اللانهائية بحد تعبير كبير الواقعيين جون ميرشمايمر ، أي بمعنى آخر ربح المعركة من خسرها .
 
و لمحاولة إخفاء هذه النصر بإخراجه بمنظر المجبر المهموم ،برر الصحفي المقرب من نتنياهو يعقوب برادغوو الفشل الذريع على نتنياهو بالضغط متعدد الجوانب من الناحية القضائية و الاجتماعية ، ما يعكس بؤس الوضع الموصد و المغلق لنتنياهو ، لإنه يمتلك مجموعة من القضايا المعقدة منها الموافقة على صفقات غواصات لمصر ، و تفادي التحذيرات المصرية له على لسان عباس كامل رئيس المخابرات السابق .و دفعت هذه العوامل العميقة للمحلل الإسرائيلي في هأرتس يائير أوسولين بالقول الواضح “أن إسرائيل لم و لن تنجح حتى لو احتلت الشرق الأوسط كله “.
 
 
طالما سطرت الفصائل الفلسطينية انتصارات مؤلمة و ساحقة ، فما يميز هذا النصر يكتمل انتصار الإدارة الشعبية لغزة ، فضلًا عن الإرادة الحربية التي نقل جان غيتون في كتابه الفكر و الحرب ليدل هارت قوله أن الأنبياء، بمعنى من يخوض الحرب بأخلاقيات أعلى و استراتيجية واقعية ، يتميز بالصمود و الإباء لما يؤمن به من مشروعية ، و هذا ما نفذته حماس بالفعل بتحويل غزة لمقبرة لإسرائيل رغم التضحيات الكبرى . فالعقبة في الحرب لمن فرض إرادته الصلبة و رأيه الحديدي رغم أنف الآخر ، فمن حق المنتصر الاحتفال و التفاؤل بعودة الحياة لطبيعتها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى