فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب:القراءات العشر جسر بين علوم القرآن وعلوم اللغة العربية

القراءات القرآنية العشر

جسر بين علوم القرآن وعلوم اللغة العربية

القرآن الكريم هو كلام رب العالمين المنزل على خاتم النبيين سيدنا محمد بواسطة أمين الوحي سيدنا جبريل للتعبد والتدبر والتعلم -أعظم كتاب سماوي عرفته البشرية، وهو الدستور الرباني الخالد الذي تكفّل الله عز وجل بحفظه عبر العصور، حفظًا يمتد إلى حروفه وألفاظه وإيقاعه وأدائه، ومن ثم فلا يمكن حدوث أي تحريف أو تغيير. وقد شكّل نزول القرآن الكريم بقراءاته المتنوعة والمتعددة معجزة لغوية وبيانية تُظهر رحمة الله بالأمة المحمدية وتيسيره عليها، وتكشف عن اتساع العربية وغناها بالصيغ والأصوات والدلالات.

ولم تكن القراءات اختلافات نطقية فحسب، بل أصبحت علمًا قائمًا بذاته يرتكز على منهج علمي دقيق، يقوم على التلقي والمشافهة والسند المتصل؛ مما أكسب هذا العلم ثباتًا واستمرارية. ومع تطور العلوم الإسلامية، برزت القراءات بوصفها ركيزة أساسية تدخل في صميم علوم الفقه والتفسير واللغة والتجويد.

وينصب بحثنا على دراسة موسعة للقراءات القرآنية عبر محاور تتناول مفهومها وأهميتها وفوائدها ودورها في اللغة العربية، إضافة إلى التعريف بالقراء العشرة ورواتهم، وذلك لتتضح مكانة علم القراءات في حفظ القرآن واللغة العربية على السواء.

أولًا: مفهوم القراءات القرآنية

القراءات القرآنية هي الوجوه المختلفة في كيفية نطق القرآن الكريم، سواء في الحركات أو الحروف أو اللهجات أو الأداء الصوتي، شريطة توافر الشروط، ومنها مثلا أن تُنقل بالسند المتصل إلى رسول الله ﷺ. ولا تعني القراءات اختلافًا في جوهر القرآن أو مضمونه أو تضاد معانيه أو تضاربها إطلاقا، بل هي تنوع في الأساليب الصوتية واللغوية التي نزل بها القرآن، بما يوافق لهجات العرب ويُبرز إعجازه البلاغي.

وقد وضّح العلماء أن القراءة المقبولة لا بد أن تستوفي ثلاثة أركان رئيسية:

الأول: صحة السند: أي أن تكون منقولة بتواتر أو شهرة معتبرة عن النبي ﷺ، وهذا يمنحها صفة الثبوت القطعي.

الثاني: موافقة رسم المصحف العثماني: ولو احتمالاً، لضمان وحدة النص القرآني ومنع الزيادة أو النقص.

الثالث: موافقة قواعد العربية ولهجاتها الموثوقة: مما يدل على أن كل قراءة تمثل وجهًا من وجوه الفصاحة العربية.

هذه الضوابط جعلت علم القراءات علمًا دقيقًا للغاية، يتطلب حفظًا وصبرًا وملكة لغوية عالية، حتى أصبح من أهم معالم الحفظ الرباني للقرآن الكريم.

ثانيًا: أهمية القراءات القرآنية

حفظ القرآن من التحريف: تميّز القرآن الكريم بأن حفظه لم يكن كتابة فقط، بل كان حفظًا صوتيًا وأدائيًا. فالأمة حفظت بصورة جماعية طرائق نطق النبي ﷺ للقرآن، بما يشمل المد والقصر، والتفخيم والترقيق، والإدغام والإظهار، وغيرها من الظواهر الصوتية. وإذا كان البشر قد حفظوا الكلمات، فإن الله تولّى حفظ الطريقة التي نطق بها رسوله تلك الكلمات، وهذا مستوى من الحفظ لم يحصل لأي كتاب سماوي آخر.

توسيع المعاني وتقوية الدلالات: من أبرز أوجه أهمية القراءات أنّها توسّع مدلول الآية الواحدة وتفتح أمام المفسّر آفاقًا جديدة للفهم. فالقراءة في سورة الكهف (في عين حمئة) تختلف دلاليًا عن (في عين حامية)، وكل منهما تضيف بعدًا معنويًا يثري الآية ويقوّي معناها. ولهذا يعدّ العلماء أن القراءات “مثل تعدد الروايات الحديثية” في بيان معنى الآية.

خدمة العلوم الشرعية: اعتمد المفسرون والفقهاء والمحدثون على القراءات في بناء الأدلة وفهم النصوص. فقد بنى الإمام الطبري وغيره من الأئمة كثيرًا من ترجيحاتهم على اختلاف القراءات. وتظهر أهميتها كذلك في مسائل فقهية كبرى؛ مثل اختلاف المعنى بين (يطهرن) و*(يتطهرن)* في آية الحيض، وهو اختلاف له أثر فقهي معتبر. وكذلك في باب العقيدة حيث تُبرز القراءات دلالات صفات الله وأسمائه.

حفظ اللهجات العربية وصون التراث اللغوي: كانت القبائل العربية متعددة اللهجات، وجاء القرآن نازلًا بسبعة أحرف فصيحة ليتناسب مع هذه الاختلافات. وحفظت القراءات هذه الظواهر، فأصبح كل وجه من وجوه القراءة يمثل وثيقة لغوية تحفظ خصائص لهجة معينة. ولولا القراءات، لضاعت كثير من الظواهر مثل الإمالة والتسهيل والنقل والاختلاس، وغيرها مما يُعدّ كنزًا لغويًا.

تعزيز الإعجاز البياني والصوتي: كل قراءة تمتلك إيقاعًا خاصًا يُبرز جمالًا مختلفًا في النص القرآني. فالقراءة بالإمالة مثلًا تمنح إيقاعًا رقيقًا يناسب معاني الرحمة أو الوعظ، بينما يمنح النقل أو التسهيل إيقاعًا آخر يناسب مقام الإنذار أو الخطاب. وهذا التنوع الصوتي دليل على إعجاز القرآن وسمو لغته.

ثالثًا: فوائد القراءات القرآنية

إثراء القاموس العربي بالمعاني والصيغ: أسهمت القراءات في توسيع المعجم العربي من خلال تعدد صيغ الكلمات، مثل: (ننشزها) و*(ننشرها)، أو (يبصط) و(يبسط)*، وكل صيغة منها تحافظ على معنى أصيل في العربية. وهذا التنوع مكّن علماء المعاجم من تتبع جذور الكلمات ودراسة أوزانها.

دعم علم النحو والصرف: القراءات حجر أساس في بناء القواعد النحوية والصرفية. فالكوفيون والبصريون اعتمدوا عليها في تقرير صحة القواعد وتفسير الظواهر اللغوية. ومن خلال القراءات ثبتت قواعد كبرى مثل: جواز رفع الفعل بعد أداة الشرط، وجواز البناء على السكون أو الحركة في بعض المواضع، وصحة حذف الهمزة أو قلبها أو تخفيفها وغير ذلك.

التيسير على الأمة في التلاوة: من رحمة الله أن القراءات جاءت لتوافق اختلاف ألسنة العرب. فبعض القبائل كانت تميل إلى الإمالة، وأخرى إلى الفتح، وأخرى إلى إدغام الحرفين. فجاءت القراءات لتسهّل على كل قبيلة القراءة بما اعتادت عليه، وهذا من التيسير الذي قال عنه العلماء: إنه رفع للمشقة.

توثيق الظواهر الصوتية: تمثل القراءات مرجعًا أصيلًا لعلم الأصوات الحديث، حيث توثّق فروقًا دقيقة في المخارج والصفات. ومن أمثلة ذلك: الهمز والتسهيل، والإمالة الكبرى والصغرى، والإدغام الكامل والناقص، والنقل في قراءة ورش، وترقيق الراء أو تفخيمها. وهذه الظواهر هي أساس التجويد والقراءة السليمة للعربية.

مساعدة الباحثين في الدراسات اللسانية: يستفيد اللسانيون من القراءات في دراسة تطور اللغة وتحوّلاتها عبر العصور، لأن القراءات تمثل نصوصًا ثابتة غير قابلة للتغيير، مما يجعلها دليلًا قاطعًا على كيفية نطق العرب في القرون الأولى.

رابعًا: دور القراءات في اللغة العربية

الأول: تثبيت قواعد العربية: القراءات مصدر أعلى للاحتجاج اللغوي، لأنها تمثل أفصح نص عربي. وإذا تعارضت قاعدة نحوية مع قراءة ثابتة، أعاد العلماء النظر في القاعدة وليس في القراءة؛ مما يدل على أن القراءات معيار دقيق لإثبات صحة التراكيب.

الثاني: حفظ الظواهر التي اندثرت: من خلال القراءات بقيت لنا ظواهر لغوية لم تعد مستخدمة، مثل: الشنشنة، والترقيق في بعض المواضع، وتخفيف الهمز الشديد، والوقف بالسكون أو الإشمام. هذه الظواهر لولا القراءات لكانت مفقودة تمامًا.

الثالث: تقوية ملكة النطق والبيان: من أتقن القراءات امتلك قدرة عالية على النطق الصحيح للعربية؛ لأن القراءات تعتمد على التدريب الصوتي العميق في المخارج والصفات. ولهذا يعدّ دارسو القراءات من أفصح الناس لسانًا.

الرابع: تأسيس علم التجويد: علم التجويد خرج من رحم القراءات؛ لأنه يعتمد على قواعد الأداء الصوتي التي جاءت بها القراءات المختلفة، مثل أحكام النون والميم والإدغام والإخفاء وغيرها.

خامسًا: القرّاء العشرة ورواتهم، ولكل قارئ راويان:

(نافع المدني – قالون، وورش/ ابن كثير المكي – البزّي، وقنبل/ أبو عمرو البصري – الدوري، والسوسي/ ابن عامر الشامي – هشام، وابن ذكوان/ عاصم الكوفي – حفص، وشعبة/ حمزة الكوفي – خلّاد، وخلف/ الكسائي الكوفي – الدوري، وأبو الحارث/ أبو جعفر المدني – ابن وردان، وابن جماز/ يعقوب الحضرمي – روح، ورويس/ خلف العاشر – إسحاق، وإدريس)

هؤلاء الأئمة وضعوا أصول القراءات وحرروها، ونقلها عنهم آلاف التلاميذ عبر السماع والمشافهة، لتصل إلينا محفوظة كما نطق بها النبي ﷺ.

وفي ضوء ما سبق يتبيّن لنا أن القراءات القرآنية ليست اختلافات لفظية فحسب، بل هي علم واسع حفظ القرآن واللغة العربية معًا، وأسهم في إثراء علوم التفسير والفقه والنحو والصوتيات، ودليل على الإعجاز الرباني في حفظ كتابه، وشاهد على غنى العربية ومرونتها، وعظمة القرآن وعبقرية اللسان العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى