استنزاف الدعم: فضح استشهاد السنوار للإعلام العبري الناطق بالعربية

كتب: مصطفى نصار
صدفة أم اغتيال معتمد ، الرصاصة و العصا الأخيرة من السنوار تعري الروايتين الإسرائيلية و المستعربة .
أثار لحظة استشهاد القائد و مدير المكتب السياسي لحماس يحيى السنوار حزن و استياء إسلامي عربي بالغ ، لكنه في نفس الوقت أشعل مشاعر الفخر و الاعتزاز لموته و هو يقاوم و يقاتل بيد واحدة . و بالتزامن مع ذلك ، أثار أيضًا حفظية المتصهين العرب و الصهاينة الحقيقين لعدة مواقف أهمها هدم و انهيار الرواية الصهيونية و فضحها ، بل و الأفدح محاولة إقناع اللجان الإلكترونية و الذباب للبقية بأنه مات لمصلحته أو محاولة منه للهرب أو أنانيته منعته من الهرب دون مواجهة .
و إكمالًا على ذلك السفول الأخلاقي ، نشرت بعض الحسابات المحسوبة على الشعبين السعودي و المصري حجج ساقطة أن الفلسطينين أنفسهم فرحين باستشهاده ، و أن استشهاده جاء بعد نجاح استخارابتي إسرائيلي . و للمفارقة الساخرة ، فندت تلك الحجج من قبل الإعلام العبري نفسه حيث أكدت القناتين ال١٢ و ١٤ ، المحسوبة على نتنياهو ،أن استشهاده جاء “مصادفة” عن طريق قوة عادية تلقت تدريبها من كورس في الأكاديمية العسكرية في إسرائيل بعكا المحتلة ، أي لا تنتمى لقوات النخبة مثل جولاني و 8400 ، و غيرها من القوات المدربة بكفاءة عالية كما يفترض .
و باستشهاده البطولي ، فند روايات الاحتلال الإسرائيلي عنه طيلة عام كامل بدءً من اتهامه باتخاذ الأسرى كدروع بشرية ، و احتماءه تحت الأرض في الأنفاق في غرفة محصنة ، مرورًا بالتضحية و التخلي عن شعبه ، و نهاية بأنه سفاح و مجرم و أصل الشر في غزة لينتهى باستشهاده مقبلًا غير مدبر محقق بذلك أيقنة و أسطورية هائلة فاقت حتى توقعات قادة الاحتلال الإسرائيلي و على رأسهم نتنياهو الذي يختبئ تحت الأرض و يهرول في كل مرة تنطلق فيها صفارات الإنذار لضرب صورايخ حماس أو حزب الله أو خلافه .
كشف استشهاد السنوار كذلك شجاعة و صمود و بسألة نادرة منه ، إذ أنه أكمل قتاله بيد واحدة ملقيًا عليها عصا قريبة ، و أطلق بها آخر طلقات مسدسه ، بينما قادة الاحتلال الإسرائيلي نقل مجلس الحرب ، و مجلس النواب المصغر ، و نقلوا محل إقامتهم للملاجئ تحت حراسة مشددة ، و في مكان صعب الوصول له .
و عطفًا على ذلك ، خلق الأسطورة باستشهاد السنوار يظهر الفشل الاستخباراتي و الأمني للاحتلال الإسرائيلي، إذ أنه كان طيلة العام يقود الحركة من فوق الأرض في مقر خال من السكان و مدمر بالكامل ، و انتقل منه إلي منطقة تل السلطان حتى استشهد في رفح محققًا بذلك أمنيته بنول الشهادة لله في أكثر من خطاب منذ ٢٠١٩ .
و فضح استشهاده بؤس و إفلاس المطبعين العرب ، و المتصهين المنسلخين حتى من أخلاق الجاهلية و مروءتهم . و انهيار الهرولة نحو التطبيع منذ اتفاق أوسلو و مدريد في عام ١٩٩٠ و ١٩٩٤ ، حتى التطبيع السعودي الذي عطله الطوفان مرورًا بنقل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب السفارة الأمريكية للقدس ، و إعلان صفقة القرن التي كانت ستنخرط في تنفيذها ٥ دول على رأسها مصر و السعودية و الأردن ، و التي لاقت اعتراضًا كبيرًا من كتاب أوربيين و أكاديمين يهود مثل آلان غريش و نورمان فلنيكاشتين .
التجسيد الحي للشعوب العربية :لحظة استشهاد السنوار أنموذجًا.
يعد يحيى السنوار من أبرز قادة حماس الذي يجسد استشهاده درسًا تاريخيًا سيدرس لعدة أجيال ، لما لها من معان نبيلة و سامية عميقة لا ينكرها غير الصهاينة و المتصهينين العرب ، فهم مجدرين من كل القيم و المبادئ .
و لعل الهجمة المرتدة العنيفة و الشرسة على قناة MBC ردة فعل منطقية للغاية للتقرير المهين و الساقط المعنون “ألفية القضاء على الإرهابين “.
و تطور الأمر في بعض البلدان كالعراق على المستوين الشعبي و الرسمي ، حيث اقتحمت الجموع الغاضبة مقر القناة و هو أمر مفروض ، و انطلقت الاحتجاجات لتضع أل سعود و إسرائيل في سلة واحدة و سحبت المجلس الأعلى للإعلام و القيم المهنية رخصة القناة لتتراجع عن موقفها المعلن الرسمي بنهاية بإعلانها على لسان الهئية العامة للإعلام بمعاقبة من خالف القيم ، فيما أغلق معد التقرير الصحافي محمد المشاري ، لينمحي التقرير من حسابه و من المنصات الرسمية للشركة الإعلامية.
و لم يتوقف ردة الفعل تلك عند القطر العراقي بل امتدت للبلاد العربية كافة ، من المحيط للخليج ، حيث سحبت رخصة مزوالة المهنة من الجزائر و المغرب بأوامر رسمية و حكومية . و بالنسبة لتونس ، أعلنت الصحفية التونسية جيهان النصري تراجعها عن عرضها المقدم من قناة الحدث و العربية لكي ترضي ضميرها كما أعلنت على حسابها بمنصة X.
و يمثل السنوار مثل جيفارا صورة البطل الذي تحدث عنه جوزيف كامبل في كتابه البطل بألف وجه حين مات ، و يمتزج فيه التجسيد الحي للمعاناة و المقاومة الذي انمحت تمامًا منذ إعلان كامب ديفيد و إتمامها عام ١٩٧٨ ، ١٩٧٩ ، و نقل دول الطوق و على رأسها مصر و تليها الأردن عام ١٩٩٤ باتفاقية وادي عربة ، و التي حولت من خلالها الدول العدوة لإسرائيل لدول صديقة ، و في أكثر الأحيان حليفة . و من أبرز الأدلة على ذلك اعتراض الصواريخ اليمنية و المسيرات بمنظومة الدفاع الأردني و المصري .
و أما بالتجمهر و التجمع من حوله ، فهو نتيجة طبيعة لأمرين أولهما تجذر و عمق جذور القضية الفلسطينية بين الشعوب المصرية و السورية و الأردنية لدفاعها المادي و العسكري عن القضية منذ إعلان الانتداب البريطاني.
و لعل الصدق و الإخلاص في معرفة أحقية السنوار و أمنيته للشهادة ، خالقًا مؤمنًا صادقًا كما أكد المنظر الأمريكي إريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق ، و هو نمط ملحوظ في كافة الحركات التمريدية و التحريرية منذ إنشاء حرب العصابات على يد تشي جيفارا و فيدل كاسترو .
بل إن جيفارا يفسر صورة البطل بأنه من يقاوم حتى موته ، فجاءت على لسانه مقولة “لست ميتًا ما دمت أقاوم “، فنال ميتة أسطورية كذلك سلمه فيها الضابط أرثر أوجستو بعد ملاحقة مريرة في الأرجنتين ، للضابط توماس جيفرستون الذي قتله و سرق ساعته و أخذ إصبعه كتذكار فخر على إنه هو من قتل جيفارا .
فلم و لن يفهم التطبيع العربي المنبطح سر الفخر الممزوج بالفخر غير الذين تربوا على بقايا رفض وجود الكيان المحتل ، و حربه الضروس التي “يشنها باسم العالم الحر “.
و ظن القوم المطبعين هذا يذكرني بمقولة فرانز فانون في كتاب استعمار يحتصر “المستعمرون و أعوانهم لا يثمون الأبطال لعدم إحساسهم و عدم إدراكهم لمعنى البطولة و التحرر”، فتحولت لحظة الاستشهاد لتجسيد حي و متكامل للوجدان العربي المكبل و المقهور بأطنان من الأزمات المحقة و المأزومة، فيدافع عنهم المستعضعون الذين أباوا قبول الذل في حين تجرعه الآخرون منذ ما يزيد على عقدين .