نكث بالوعود و صدمة البدايات: مئة يوم من الفشل وخيبة الأمل

كتب: مصطفى نصار
ركز ترامب بشكل عام حملته الانتخابية على عدة جوانب أساسية منها الاستقرار و التقدم الاقتصادي لتحقيق الرخاء و الرفاهية اللازمة لجعل أمريكا عظيمة مجددًا حسبما يؤكد شعاره الشهير جاعلًا المواطن الأمريكي ينساق وراءه بمنتهى البساطة و السطحية و السهولة مع التركيز على ما يود الأمريكي سماعه حتى تبنى الثقة و الشفافية بينه و بين جموع غفيرة من الأمريكان مع نبرة من الشعبوية الساحرة بأسلوب فج في الخطاب السياسي و الاقتصادي.
متناقضات و تضارب مع التعهدات الانتخابية: سياسة ترامب الداخلية الفاشلة
مع ذلك، حرص ترامب على استخدام وسائل أكثر حبًا للنفس ، و صراحة تصل لدرجة من الوقاحة وصلت لحد سب الإرادات السابقة كلها ، و سب الرئيس السابق جو بايدن في الأماكن العامة ، فضلًا عن المناظرات الانتخابية الذي وصفه فيها بكلمة غبي و أحمق و عجوز خرف أكثر من ٢٥ مرة في المناظرة الواحدة ما أعطى شعبية جارفة ، بالإضافة لإطلاقه أكثر من وعد جذاب على تويتر أو خارجه بتوالي و تتابع عجيب يجعل الأمريكي و الأجنبي يظن أن أدائه سيتحول لتحقيق الحلم الأمريكي ، بل سيتفوق عليه في أمرين أولهما السرعة المنجز بها ، و ثانيهما العائد المادي الضخم و انخفاض الأسعار و انتعاش الدولار مرة أخرى.
بتلك التقنيات الثابتة، و التأكيدات الثورية ، انجذب الشارع الأمريكي لجرأته الزائدة ، و رغبته في إنفاذ الانتقام السريع و النافذ من فئات ظالمة ، و “متهورة “، و قد ركزت على ملفات محدودة دون الأخرى ، و ما عزز تلك المنظومة الانتخابية لاكتساح الولايات كافة بما فيها المسلمين و اللاتين ضعف جو بايدن داخليًا ، و تكثيف الدعم لملفي الأسلحة المصدرة للاحتلال الإسرائيلي و الأجندات الجنسية اللبيرالية و على رأسها الأسرة و تغيير مناهج الأطفال لتلائم أكثر ما يسمونه “التنوع و قبول الآخر “دون تجهيز خطط مناسبة و متممة لمنعه من العودة للبيت الأبيض.
مع عودته للسلطة ، أصاب الجميع بصدمة شديدة فقط ، مؤيديه قبل معارضيه بسبب قراراته الاقتصادية و الحقوقية ، و الاجتماعية، والمؤسسية التي جعلت الجميع يراها انقلابًا قويًا على وعوده الانتخابية، بل تخطي الأمر ليصل لاتهامه بالعمالة و الخيانة للصين ، و بالتأكيد أوربا لم تر ذلك إلا خيبة أمل كبيرة لتخيله عنها في ملفات معقدة ، و حساسة للغاية على رأسها حرب أوكرانيا، و تلويحه العام بالخروج من الناتو لإنه لم يدر عليه فائدة مادية كما يجب ، وصولًا للملف النووي مع إيران بعقلية تصل لإنكار الأخطاء بدعوى أنها من وسائل مغرضة ، محولًا ذلك الانتقاد المدروس لمحاولة تصيد عشوائية و شيطنة معتمدة له.
أما الداخل ، فقد خدع ترامب الجميع باختلاف توجهاتهم الحقيقة ، لا فقط بسبب وعوده المشتملة على إنهاء الدولة العميقة، و تفكيكها ، و حربه التجارية العارمة المسماة تخفيفًا بالرسوم الجمركية على الصين التي وصلت ل١٣٦ %على المنتجات الصينية ، بالإضافة لسرعة اتخاذ القرارات التنفيذية التي تنم عن عقلية مصابة بداء العظمة و تولي اليمينين كل الحقائب الهامة ، على رأسها الدفاع و الخارجية و الأمن القومي ما عمل على فتح الخسائر الفادحة و الكبيرة بكافة أشكالها ما يطرح سؤال عن كيفية تأثيرها على شكل حاضر و مستقبل الولايات المتحدة داخليًا و خارجيًا.
الاقتصاد بين الركود و الكساد و الحقوق بين الماركثية و الطرد :شريعة ترامب الجديدة إطاحة متكاملة !!
تكمن الكوارث الرئيسية فيما افتعله ترامب من أزمات على مستويين كبيرين تتضمن الملف الاقتصادي بكافة تفاصيله بدءًا من الخدمي ، و انتهاء بالأسري و الزراعي و القومي ما شكل عوامل ضغط كثيفة ، و قمع ممنهج و مقصود تجاه الداعمين لفلسطين و اعتقال محمود خليل و محسن مهدواي ليترحل الأول و يخرج الثاني ، ما يزيد من قابلية الانقلاب على القضاء الأمريكي، متجسدًا في اعتراضات ترامب الفج و الوقح ناهيًا إياه عن إصدارات لا تنم إلا اعتراض “سطحي على الرئيس ” و غير قانوني من وجهة نظره.
هذه الشرعية الحديدية هشمت عدة أسس هامة في القانون الأمريكي حتى ولو سبيل المنظر العام فقط ، و كذلك يجعل القانون مسخرة قابلة للسخرية منه ، فيضحى في معضلة أخلاقية جديدة ما يشكل تساؤل أوسع في التطبيق ، و يتضمن السؤال الكيفية التي سمحت لسلطة دون الأخرى الارتفاع العملي و التطبيقي دون إجراءات الفصل الإلزامي بين السلطات ، لعل تلك المشكلة الاجتماعية خلقت أزمة دستورية وصفها أساتذة قانون مثل كيمبلي ويلبي أستاذة القانون الإداري و الدستوري في كونكتيت ، فضلًا عن كارثة تجنيد الجامعات لفصل أو ملاحقة أو رفض أي طالب عربي أو حتى مسلم لطرده فقط إما لدعم القضية الفلسطينية أو تنديده للإبادة الجماعية على غزة.
و لم تتوقف هذا الانهيار المدوي على الأمور القضائية و القانونية بشكل كامل ، إذ أن صرخات الاقتصاد وصلت عنان الحناجر ، لانهياره التام ، و تمكينه لأصحاب الشركات من تضخيم أرباحهم بفرض المزيد من الضرائب ما مكن الأغنياء من زيادة ثروتهم ، فضلًا عن الجرائم الكبرى بحق الأمريكان أولًا، فقد بلغت الخسائر لعدد فرص العمل بخسارة تقدر ب١٤٥ ألف وظيفة حتى الآن ، و خسارة إنتاجية تقدر بعدة جوانب أقلها تقدر بتحمل تكلفة إنتاجية تقدر بحوالي ٣٥٤ مليار دولار حتى الآن، فضلًا عن مستقبل الدولار البائس كما وصفه أستاذ الاقتصاد في جامعة شمال كارولينا مارك بليث.
فهذه الخسارة تصب في الأساس لمصلحة الصين حيث ربحت كذلك الحرب الاقتصادية ، مع اكتساب حلفاء جدد أكثر مرونة و ترحيبًا بالتعامل معها ، أو كما يقول جوستافو جرمونيز كبير الاقتصادين في شبكة فوكس أن تلك الهزائم الاقتصادية توفر قدرًا أكبر من القابلية للربح ، و أرضية واسعة للتفاوض ، و للمفارقة كادت أن ينهار الاقتصاد العالمي من بوادر أزمة عالمية ، ما خلق تناقضًا صارخًا وصفه أستاذ السياسة و الاقتصاد جون ريس بالرئيس شودنغر إشارة لعالم الفيزياء الشهير إرفين شودغنير الذي قام بتجربة ساخرة يؤكد فيها موت قطة و حياته في الوقت نفسه.
بهذه العقيدة السياسية و الاقتصادية ، رسم ترامب شكل المستقبل المتوقع للولايات المتحددة ، و من المرجح أن يضع الولايات المتحدة في كف العفريت ، ما يشكل ضبابية مهيبة ، و عدم يقين مرعب و مخيف بشكل مقترب من الحياة اليومية في المجالات الأساسية من زراعة و تجارة و صناعة لطوق يربو الآن ، و بذلك يطرح التتابع المنطقي نفسه حول وضع السياسة الخارجية في أول ٣ شهور له ، لتتضح أنها سياسات لا تقل صدامية ، ولا جدلًا عن مثيلتها ما شكل أرضية صلبة للسخط و الغضب و فقدان الشعبية و الخيانة للمبادئ الثابتة الخاصة بالولايات المتحدة.
نظام ترامب الدولي: صدمة للعودة للقرن التاسع عشر
وفقًا لمقال جديد لمدير مكتب صحفية نيويورك تايمز السابق كريس هيجدز ،فإن ترامب استعمل “لقطة وقف إطلاق النار بين الهند و باكستان “باعتبارها قشة النجاة قبل الانحدار المتسارع نظرًا لاتباعه لاستراتيجية فوضوية في العلاقات الدولية التي تعد أعجب ، و أغرب السياسات الأمريكية التي تهدف لانتهاج سياسة العزلة الدولية التي ستعود بالعالم للقرن التاسع عشر ، و على رأسها الولايات المتحدة فضلًا عن تشجيعه للقومية المتطرفة التي تنتهج نظام الكراهية و نبذ الآخر بأي شكل قمعي ووحشي ، بعبارة أخرى يعيد ترامب تشكيل العلاقات الدولية بالولايات لتتحول لدولة منفردة معزولة.
و هذه الملاحظة عقد من أجلها أحمد داوود أوغلو المفكر الإسلامي و رئيس وزراء تركيا بين عامي ٢٠١٠_٢٠١٦ أن يغضب من أجلها ، و يقارنه في يوليوس قيصر في جنونه و قمعه ، و أكد أن ترامب بطريقة أو بأخرى يسعى لرسم نظام عالمي قديم حيث القرن التاسع عشر، دون التزام حقيقي بالأسس البنيوية للإدارات السابقة منذ بيل كليتنون حتى أوباما الذين اتبعوا عقائد سياسة مختلفة للغاية ، و بذلك تتحول السياسة الخارجية لمجرد بذلة أنيقة بحسب عقلية و تفكير الشخص المتولي للسلطة ما قد يسقطها في يد مجنون بالعظمة لن يستطيع التحكم في المقود بإتقان.
فطبق دونالد ترامب عقلية المطور العقاري على السياسة الخارجية ، فوجدت نتيجة عجيبة تزيل مساحيق التجميل الخاصة، و تهدم الأصنام الصلبة ، و تتخلى عن حليفها القوي في الشرق الأوسط البائس الكيان السرطاني دولة الكيان الإسرائيلي، فكونت وجهًا جديدًا يسعى بمنتهى السعي الحثيث و الدأب المتواصل لتحقيق أهداف فردية و مصالح ضيقة هدفها الأساسي ظاهريًا الظهور بمظهر اللامبالي و المكتفي ذاتيًا ، مسببًا بذلك صدمة مدوية وصفها أستاذ السياسة في معهد العلاقات الدولية ريتشارد هاس بالمئة يوم الأولى التي صدمت السياسة الخارجية الأمريكية، و لا يتوقع خيرًا إن استمر هذا النهج بتلك الوتيرة المتلاحقة في ملفات حلف الناتو ، و حرب روسيا مع أوكرانيا، و الملف الأهم ملف حرب غزة.
على هذا الصعيد ، أتى ترامب بعدة خطط كارثية للقطاع بدءًا من خطة التهجير الباطنة ، و خطط الربط الدولي للمساعدات الإنسانية بالإدارة السياسية للقطاع ، و للمفارقة كلها تحمل نمطًا وحشيًا لا يراعي حتى الأصنام الحقوقية المعهودة و النمطية مثل حقوق الإنسان و الأقليات و المسلمين، بل لم يكن من سبيل المبالغة إن ما اعتبرت الترامبية الخارجية فقاعة من الصرف اللانساني التي ستنفجر وقت امتلائها لتنفجر ، وقتها ستغرق النظام الدولي كاملًا ، و إن كان قد بدأ بالفعل مؤشرات دالة على ذلك منذ صعود اليمن المتطرف في أوربا مجددًا.
في الختام ، وصف ترامب سياساته المجنونة و الفوضوية بالإنجازات التاريخية، مع خضوعه لغطرسته النفسية ، و طغيانه المفسد و الهادم للسياسة نفسها ، فالاستبداد و الطغيان السياسي و الثقة الزائدة و النصر الزائف معاول هدم عنيف للدولة الديمقراطية و الديكتاتورية، و لعل هذا ما جعل البروفسور آرثر آربري في كتابه خرافة الزعيم القوي يصل لنتيجة حتمية ، تتمثل في السقوط للدولة و إن لم يكن سقوطًا مدويًا مخيفًا مثل الاتحاد السوفيتي فسقوط تتابعي مراحلي ، ما يمثل عين ما تواجهه أمريكا الآن ، أي بعبارة أخرى بدأت مرحلة الأفول الغروبي التي تناوله ابن خلدون بالتفصيل في مقدمة التاريخ.