فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب: أمل دنقل بين التراث والاستشراف

 

ليس الشعر مجرد كلمات موزونة مقفاة فارغة من المعاني، وليس دور الشاعر هو صب الكلمات في القوالب الجاهزة؛ فيصير الأمر شكلا دون معنى، أو جسدا دون روح، وإنما الشعر يحمل فكر الشاعر وثقافته وروحه وخبراته واستشرافه للمستقبل؛ ولذا فلا عجب أن يقدم الشاعر النصح والإرشاد لقومه، أو المدح لمن يستحق المدح والثناء، ويواجه بكلماته من يستحق المواجهة؛ فلا أحد ينكر دور الشعر وتأثيره على قرائه ومستمعيه؛ فالعبارة الشعرية تنتقل وتخترق القلوب والأفئدة، وتستقر بها إذا خرجت بصدق وإخلاص، كما أن معايشة الشاعر لقضايا بلده، ومشاركته أفراحه وأحزانه أمر طبيعي ومنطقي وواجب على كل من يعشق تراب وطنه، وهذا ما قدمه شاعرنا أمل دنقل في قصيدة “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، فزرقاء امرأة عربية سكنت اليمامة، وقيل إنها كانت ترى الشخص على بعد مسيرة ثلاثة أيام؛ واشتهرت بزرقة عينيها وحدة بصرها، حتى إن قومها كانوا يستعينون بها لتحذرهم من الغزاة، ويروى أنه في إحدى الحروب استتر العدو بفروع الأشجار وحملوها أمامهم، فرأت زرقاء اليمامة ذلك؛ فأنذرت قومها فلم يصدقوها، فلما وصل الأعداء إلى قومها أبادوهم وهدموا بنيانهم، وقلعوا عينيها حتى تنتهي هذه القوة الخارقة من التميز والانفراد.

فبعد أحداث نكسة 1967، تكالبت على الشاعر الأحزان؛ فاستدعى أحداث التاريخ، ومنها قصة زرقاء اليمامة التي أنبأت قومها عن رؤيتها لجيوش قادمة زاحفة تجاههم؛ فلم يصدقوها، وحلت الكارثة بغتة، وأعمل فيهم الطغاة ما شاءوا وكيف شاءوا؛ من قتل وطعن وسبي وذل ومهانة، فوقع القتلى والجرحى، ويعبر عن ذلك محدثا تناصا أسطوريا تاريخيا معبرا به عن مشكلة وجودية نفسية حقيقية تتمثل في خسارة الحاضر ومحاولة استشراف المستقبل:

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..

جئتُ إليك .. مثخنًا بالطعنات والدماءْ

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.

أسأل يا زرقاءْ ..

عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة

عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء

عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..

فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة!

عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!

أسأل يا زرقاء ..

عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ!

عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ؟

كيف حملتُ العار..

ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟!

ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة؟!

فها هي النكسة تخلق العار، وتكسر المفاصل والأوصال، وتذل النفوس، وتقضي على الكبرياء، وتخلف الجرحى والقتلى، والمشاهد الصادمة التي تزلزل الكيان، وتقضي على الأماني والآمال، ويجسد الشاعر ذلك في كلمات حزينة؛ فيقدم صورا للأطفال الملقاة في الصحراء، وصورة للجار الذي تندفع الرصاصة إليه قبل رغبته في شربة ماء، وعن حال الخزي والوقوف بلا سلاح يحمي المرء به نفسه ووطنه، وعن صرخات السبايا من النساء، ويتساءل كيف يتحمل كل هذا المشهد الذي يفوق القدرات البشرية التي يحيا بها الإنسان؟ّ! وكيف يتحمل هذا العار؟! وكيف لم يتمكن من الخلاص من نفسه بقتلها؟! ولماذا لم يسقط اللحم من فوق العظام من هول ما يرى ويشاهد فماذا يبقى، وقد ضاع كل شيء حتى التراب؟!

 

تكلَّمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ

لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..

تلعق من دمي حساءَها .. ولا أردُّها!

تكلمي … لشدَّ ما أنا مُهان

لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران!

ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..

ولا احتمائي في سحائب الدخان!

.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة

(كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق

فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ

وحين مات عَطَشاً في الصحَراء المشمسة ..

رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..

وارتخت العينان!)

فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان؟

والضحكةَ الطروب : ضحكتهُ..

والوجهُ .. والغمازتانْ؟!

وينتتقل إلى تناص آخر، وهو تناص تراثي تاريخي، مع شخصية عنترة بن شداد، حياة العبودية والرعي والحلب، وحياة استدعائه للقتال والدفاع عن شرف القبيلة، فهو تارة عبد، وتارة أخرى بطل، حسب الحاجة والمصلحة، وإن كانت النظرة الدائمة إليه أنه عبد من العبيد، ولا حق له في أي شيء؛ إذ يقول:

أيتها النبية المقدسة ..

لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..

لكي أنال فضلة الأمانْ

قيل ليَ “اخرسْ..”

فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيان!

ظللتُ في عبيد (عبسِ) أحرس القطعان

أجتزُّ صوفَها ..

أردُّ نوقها ..

أنام في حظائر النسيان

طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسة .

وها أنا في ساعة الطعانْ

ساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسانْ

دُعيت للميدان!

أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن..

أنا الذي لا حولَ لي أو شأن..

أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،

أدعى إلى الموت .. ولم أدع الى المجالسة!!

والمتامل في الكلمات الشعرية -التي يستعملها الشاعر- يجد إسقاطا بين الماضي والحاضر، ولا يتوقف عند ذلك فحسب، بل تمتد الرؤية للمستقبل، وحالة من الحزن الشديد، والحيرة، والإقرار بوجود تخاذل شديد، يتمثل في سؤاله المتناص: “ما للجمال مشيها وئيدا؟!”، وهو سؤال يحمل الاعتراف بواقع شديد البؤس ومحاولة طلب تغييره، ولكن هيهات هيهات! فلا أحد يجيب، فحالة الخنوع والركون والاستكانة، هي الحالة المسيطرة على الأجواء، ومحاولة استشراف المستقبل محاولة بائسة يائسة في نظر الشاعر، فكيف يرى والضباب كثيف، وكيف يطلب؟ وممن يطلب؟ ومن يجيب عن أسئلة الشاعر:

 

تكلمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي.. تكلمي..

فها أنا على التراب سائلٌ دمي

وهو ظمئُ .. يطلب المزيدا.

أسائل الصمتَ الذي يخنقني :

” ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!”

أجندلاً يحملن أم حديدا..؟!”

فمن تُرى يصدُقْني؟

أسائل الركَّع والسجودا

أسائل القيودا :

” ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!”

” ما للجمال مشيُها وئيدا..؟!”

أيتها العَّرافة المقدسة..

ماذا تفيد الكلمات البائسة؟

قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..

فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!

قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..

فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!

وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..

والتمسوا النجاةَ والفرار!

ونحن جرحى القلبِ،

جرحى الروحِ والفم.

لم يبق إلا الموتُ..

والحطامُ..

والدمارْ..

وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ

ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،

وفي ثياب العارْ

مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة!

ها أنت يا زرقاءْ

وحيدةٌ … عمياءْ!

وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ

والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياء!

فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها

كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.

في أعين الرجال والنساء؟ْ!

وأنت يا زرقاء ..

وحيدة .. عمياء!

وحيدة .. عمياء!

رحم الله الشاعر أمل دنقل؛ فقد مات جسدا، وبقيت كلماته مصدرا للنور والإلهام، في الماضي والحاضر والمستقبل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى