الشدة الغزية: حين تحلم بالرغيف ولا تجد إلا فتاته

كتب: مصطفى نصار
بادئ ذي بدء، استفحلت المجاعة في غزة بشكل لا ينكره إلا متصهين خسيس ، أو لا يميز من الأساس منذ أن أعلن الاحتلال تحطم وقف إطلاق النار منذ ٦٩ يومًا ، ما أدى لفواجع كارثية ستنذر بكوارث أكبر فداحة ، و أعظم أثرًا ، و بخاصة مع تدخل الإمارات في الملف الغزي لحله نهائيًا ، بالطبع لن تحله بالود أو إلقاء الورود على المجوعين المحاصرين في غزة، بل ستجعلهم يتألبون على بعضهم البعض في سينايور أقرب للسودان.
من كفر الجوع لأكل أي شيء :تفاقم المجاعة في غزة ينذر بكارثة محققة
بشكل مقرب و إنساني، انتقلت المجاعة من مرحلة الجوع و خبز الطحين الفاسد ما أدى بأهل غزة للبحث عن بديل فطحنوا الأرز ، و المكرونة فقط ليصنعوا الخبز ، وصولًا لإلغاء اللحم و الدجاج من قاموس الوجبات اليومية تحت وطأة الغلاء الفاحش للأسعار ، مع الوضع في الاعتبار هدوء و ثبات الوضع المحكي ، و قبيل إعلان نفاذ الدقيق من غزة ، ليرسم المشهد صورة تشيع الهزالة ، و سوء التغذية و الضعف العام ليصل لمرحلة أكل كل شيء من الحيوانات و السلاحف البحرية و أوراق الشجر مرورًا بطحن الأعلاف لخبزها بعد ذلك باعتبارها وجبة أساسية.
ملمح آخر هام للغاية يتمثل في غلق المعابر بقوة للتأكد من عدم دخول أي شربة ماء كما أكد الوزير المتطرف إيتمار بن غفير ، ما قلل توافر السلع الأساسية غير استغلال التجار اللحظات القاسية بمنتهى الحقارة لرفع السعر مع تخزينها بالأطنان ، فلجأت الجمعيات الإغاثية لعمل طوابير خبز ، و ما توفر من الدقيق ، الأمر الذي حول الحصول على اللقمة السائغة لتحدي حقيقي وواقع مرير يعيشه الغزي في يوميه الطبيعي ، فضلًا عن وجود مجاعة كارثية في الشمال المحاصر الذي كان بمثابة الصحراء الجرداء الجدباء ، لهذا بدا الجوع عاديًا في غزة ، بدركات مختلفة و كل دركة أسوأ من قبلها.
و تخطت المجاعة من مرحلة الكفاف لمرحلة الجوع العظيم ، فيما يسمى بالمجاعة الشاملة التي أعلنت عدة حروب بسبب منها حرب اللصوص المستفيدة من سرقة الطعام و الشراب لبيعه في السوق السوداء ، غير التوسع فيها لسرقة حتى التجار بأطنان السلع و المستلزمات الغذائية ، ما أدى لانعدام السلم الأهلي بين أهل غزة فاصبح اليوم مخاضًا عسيرًا بين خوف مستمر و رعب متجذر إما من السرقة أو عدم إيجاد الطعام من الأساس ، و خلف هذا العديد من النتائج الكارثية التي رسمت بدورها لوحة من المأساة الحية التي ترتقي لتسميتها بالشدة الغزية.
لتكتمل هذه اللوحة بكل تفاصيلها المأساوية و أجزائها الحزينة بإعلان المجاعة رسميًا من الأمم المتحدة عدة مرات في خلال الشهر الماضي و الحالي ،مع انعدام كامل للخدمات ، و الأمن الغذائي ما يراكم العديد من النتائج السلبية على كافة المستويات منها الصحي و النفسي و الاجتماعي ، و يطرح سؤال ملح عن سلاح التجويع و فاعليته الواقعية مع أهل غزة إحصائيًا و عدديًا و سكانيًا ، الأمر الذي لابد من علاجه أو تخفيف آثاره و إلا ستنهار دول الطوق لإنها الهدف بعد إنهاء غزة للأبد بالمجاعة و الصورة الداخلية لها التي باتت قاسية الآثار عميقة الآلام ، تصل لمرحلة تطهير تجويعي.
التقشف في الطعام حتى الموت أو سوء التغذية المزمن :عندما تشتد الشدة الغزية
بالعودة للتقارير الصحفية المتناولة للمجاعة في غزة ، فمن الجدير بالملاحظة أن جميع الطوائف العمرية و الفئات المجتمعية تعاني من سوء التغذية الحاد ، و أمراض الفشل الكلوي و التهابات الوجه ، وصولًا لمرحلة السقوط أثناء السير نظرًا لقلة استهلاك الطعام الكافي أو تقليله إجباريًا، ما أدى لظهور الحرمان القسري من الطعام أو تقليل عدد مرات تناوله من ثلاث مرات لمرة واحدة فقط لا غير ، و هذا للأفراد غير المتزوجين لإن المجاعة بالنسبة للأسرة الكبيرة و الممتدة عناء لا يطاق ، بسبب محدودية الاختيارات بين أكل الصغار و الكبار يوميًا.
كونك رب أسرة في غزة ، فهذا يعني أنك غير مؤهل لتناول الوجبات الأساسي لإن الأطفال لن يحتملوا لفترة طويلة من الزمن فتحتار بين خيارات عديدة إما أن تترك ، أو تترك لأطفالك الطعام ليأكلوا و تجوع أنت ، غير عدم وجود خيار يفي احتياج الطرفين الأساسي من السعرات الأساسية فضلًا عن وجود أطفال يتامى ينتظرون يوميًا لساعات طويلة على أمل الحصول على صحن واحد فقط مما يقدم إما من الأطعمة المذكورة سلفًا أو من البقايا التي تتبقى من الأرض من الفتات أو يضطر لمسح الأواني بنظرة كبيرة من البؤس المشتاق لأبسط المتطلبات الحيوانية.
كما يعاني أكثر من ٥٠%من الأطفال من المجاعة الشديدة ، مع وفاة ٥٠ طفل حتى لحظة كتابة المقال ما دفع السلطة الفلسطينية برئاسة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى لإعلان أن غزة منطقة مجاعة رسميًا مع مناشدات عاطفية عبثية للمجتمع الدولي بفتح المعابر و إدخال المساعدات المكدسة على المعابر ، و تحديدًا معبر رفح البري الذي ظل مغلقًا بمنتهى الحقارة و البرود من أجل فقط الضغط على المقاومة للاستسلام لخطة التهجير أو الاستمرار في الإبادة مع إصابة الرضع و الخذج بالأمراض المناعية الحادة ما قلل وزنهم للنصف أو الربع ،و لا تكتفي المجاعة فتكًا بأهل غزة حتى ترينا أشكال أخرى من أهوال القيامة.
و لإكمال لوحة الاحتضار من الجوع ، لابد من معرفة أن ٨٠%من سكان غزة على وشك الوفاة ، و الوجوه تتباين عليها الإرهاق المزمن و التعب الكبير ، و لإن المجاعة وصلت أقصاها كما أكد الدكاترة الثلاثة مادس جلبرت و غسان أبو ستة و ديفيد سميث ، فالحلول و البدائل تتقلص لحين تصل للانقراض البطيء من الجوع مما يعيد لأذهاننا قصة الاتحاد السوفيتي و تجويعه لمدينة لنينغراد ، و يبحث في الملام بين الحالتين بترك غزة هزلية متبعة خائرة يحوط بها الموت من جميع الجهات المحيطة ، بعدما كانت كافية مكتفية يأتي رزقها رغدًا بما غنمت به من العمل.
من المجتمع الدولي للدول الطوقية لغزة: الجميع مشارك في الجريمة الفظيعة
بموجب القانون الدولي، ترتكب دولة الكيان الإسرائيلي جريمة حرب مكتملة بتجويع الناس وحدها ، فضلًا عن استهدافهم المباشر عن طريق القصف المباشر لتجمعات الطعام و طوابير التكايا و المطاعم لإمعان الإذلال و نزع الأنسنة للشعب الفلسطيني ، و إعادة احتلال قطاع غزة عسكريًا مجددًا و وضع خطة تتضمن ربط الحصول على المساعدات بالخيانة للحركة أو الاستسلام طيلة السنة و نصف الماضية منذ أكتوبر ٢٠٢٣م ، ما يشكل ضغطًا عظيمًا على أهل غزة على جميع المستويات و الأصعدة بدءًا من تصعيد القبضة الحاكمة على دول الطوق مرورًا بالتهديدات العالقة من وزراء و قادة معارضة صهيونية.
الجميع شارك في تلك الجريمة الفظيعة ، سواء بالسكوت أو المشاركة المباشرة بالمساعدة و الدعم من المجتمع الدولي أخيرًا ، و دول الطوق على رأسها الأردن و مصر و السلطة الفلسطينية التي تحاول جاهدة فصل المقاومة عن محيطها ، علمًا بأن غزة هنا درع الأمان و الحماية الوحيد الصامد في وجه كيان سرطاني ممتد حلمه فقط تحقيق نبوءات توراتية محرفة لا تغني و لا تثمن بل تجعل المنطقة بأكملها تحت طبقات من رماد الحمم البركانية التي تنتظر الانفجار في أي لحظة بعدما ثبت إخفاقها الداخلي و الخارجي بما لا يدع مجالًا للتساؤل.
في المقابل، تهدم المجاعة الشديدة فاعلية القانون الدولي بأركانه الثابتة و سرعته في تطبيقه بشقيه التنفيذي و العقابي كما حدث في قصص أخرى مؤلمة ، و مقتصرة حصرًا على المساواة الجائرة بين الجاني و الضحية مثل لينغراد ، بل حدث في غزة نفسها قبيل أكثر من سنة في القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، و لهذا تواجه تحديًا كبيرَا للغاية فيما بتعلق بمدى قوة المحكمة نفسها ، و هي نفس الأطروحة التي يؤكدها أستاذ القانون الدولي في دراسة موسعة بعنوان إسرائيل و المجاعة في غزة ، فيستخلص البروفسور الإنجليزي باندوك فون كنجك أن القانون لم يعد له أي قيمة “واقعية “تذكر دونما تتصرف المحكمة الجنائية الدولية و العدل الدولية في تلك الفضحية المدوية.
بالإضافة لما سبق ، سلاح التجويع إن كان قاسيًا مؤلمًا فإنه لا شيء بالنسبة للتحرير الوطني الفلسطيني ، لإنها رحلة طويلة مليئة بالدماء و التضحيات ، و ليس إلا محاولة ممنهجة كما يورد أستاذ العلوم السياسية نورمان فليكاشتين في كتابه غزة بحث في استشهادها ، و لن يؤدي هذا بالضرورة إلا لظهور حركات أكثر تطرفًا من حماس حسب الرؤية الغربية ، و كذلك الوضع في الاعتبار عدم قدرة الدول العربية جميعها على استبدالها أو تفكيكها المزعوم عبر أكثر من ٨٠ عام ، لا لشيء، ما برر به الاحتلال اقترفه لتلك الجريمة ما هو إلا تبرير أهوج أو تصريح لا ينم إلا عن عقلية العصابات التي أنشأت الكيان في البداية الإبادية الأولى ليؤكد تحت إدارة دولية للإبادة بأن العالم غابة إسرائيلية مسيحية متصهينة لا تريد إلا عبيدًا لها و رعاع سذج يسمعون ليطيعوا لا ليقاوموا.
و في الختام ، أضاف مارك رايان مدير المنطقة لمنظمة الصحة العالمية أن تلك الجريمة مسؤوليتنا في “المجتمع الدولي “، و نحن نتحملها ، مع عدم التأمل مليًا في الأمر و طرح السؤال التالي :لم التقاعس التخاذلي عن دعم غزة ، حتى و لو إلكترونيًا أم إنه الوهن الخنوعي و السلبية التي تربينا في كنفها؟، و الجواب أبسط مما يعتقد يزول الجوع مع الشبع الروحي الذي طالما تعلمناه نظريًا دون تطبيق محفز لذوات الأموات ، و هذا الملمح لاحظه حتى إدوارد سعيد و فرانز فانون في الثورة المسلحة الجزائرية ضد فرنسا ، فالمعادلة الجائعة هي ببساطة معدلة تيه و قيم ، مع اقتناع تام أن ما تحت القدم هو المدى المنتهى له دون أن يسأل عن العالم المتغير من حوله ، و هو ثابت صامت مثله كمثل الشجرة بل إن الشجر و الحجر لو تحركوا لقتلونا شر قتلة أو لحملونا على أكتافهم الورقية مثل روايات الخيال العلمي لإنقاذهم !.