اخبار عالمية

الدرس القاسي من الربيع العربي.. الثورة السورية نموذجًا حيًا

في البدء كانت الكرامة المهدورة.. ربيع سورية بعد 14 سنة

 كتب: مصطفى نصار
الدرس القاسي من الربيع العربي، لعل ما يذكر من الربيع العربي،  و ما بعده فيما يخص الثورة السورية كثير ليس فقط لإن تاريخها مليء بالمذابح المروعة ، و الجرائم الكبرى بل لإنها أيضًا مختلفة قيميًا و معياريًا فالشعب السوري بأغلبيته السنية أراد فقط استرداد كرامته المهدورة ، و حقوقه المسلوبة الذي طالما أرادها ، و لكن الفرصة لم تحن أبدًا لاستقرار البلد الآمن ، و اقتصاده المزدهر بوظيفة تكفي اليوم بأكمله ، فكانت معادلة صعبة التخلي عنها إلا من ذوي الفكر النبيه ، أو المكتوين بنيران الأسدية من سجون أو عرقلة حياتية أو نفي أو تشريد أو كل تلك صنوف التعذيب في مركز من مراكز الاعتقال الكاملة ، ما دفع إعلاميين بارزين كأحمد فاخوري للهرب بالخارج لإكمال حياته .

 

الدرس القاسي من الربيع العربي.. الثورة السورية نموذجًا حيًا
خفتلك الكآبة بالإضافة للاحتكار و الاحتقار الطائفي جعلت الأرض مهيأة تمام التهيئة ليس فقط للتخلي عن الرفاهية الاقتصادية و الاجتماعية التي لو توفرت لشعب آخر لتخلى عن فكرة الثورة من الأساس ليس فقط لعدم جدواها الفارغة من مضمونها ، بل كذلك لعدم إدراكهم الجمعي لمعنى الكرامة و الحرية المستمدة من اللدن الإلهي ، و التي دفعت الأثمان الباهظة من أجلها على مدار ١٤ عام حتى التحرير .


 
فتتميز الثورة السورية بمرتكزات ثابتة تنطلق على أساسها مطالب مستدامة ، مما يعني نجاتها الحتمية و إن دفعت الغالي ، و قد دفعت بالفعل دماء مليون شهيد ، و أكثر من ١٣ مليون نازح و لاجئ داخلي و خارجي فتركت البلد أرضًا خربة فضفضًا لا رجاء و لا أمل موثوق بها ، لكن عندما تحرك الكرامة كل شيء تكون النتيجة حتمية و مكللة بالنصر العظيم و الفوز المجيد ليس فقط من أجل حياة عادية ، بل من أجل حياة تستحق أن تنال بحقيقة مفادها “الله مصدر الكرامة و العزة “، و لا سيما أنها كانت فزاعة الديكتاتوريات في تخويف الشعوب ، و ثبيتهم على مهانتهم العامة ، و الإذلال المحقر للذات .
 
فميزة ربيع سورية ليست في تجريدها المحض و لا فقعتها الكبيرة ، بل في اكتمالها المرجو منها حتى الآن في أن إرادة الشعوب تنتصر على ظلم الطغاة الطويل ، و بأسهم الظاهري و السطحي الذي حتمية هشاشته أفضت به لاعتقاد قوي و متين يتبنى الرؤية التقليدية للاستبداد التسلطي ، و التي أنتجت بيئة كارثية العواقب،  و لكن الإرادة الحرة التي حققت المستحيل في الثورة على مدار ١٤ سنة ، بعبارة أخرى بقي اللمسات الأخيرة لإكمال اللوحة الأولى لنجاح أول نموذج في الربيع العربي ناجح بنجاح ثورته .


 
فتأتي خلاصة ربيع سورية المخضب بالدماء ليعطي لشعوب أخرى نفوسها تحجرت ، و عقولها تجمدت مثل ألواح الثلج الخالص لتنفذ بحق وصية الصبر المنتهي بالسعي المحموم بعدما ظن أن إفناء النظام ، بل و نهاية حكم الأسد خالد بخلود العائلة التي حكمت أكثر من نصف قرن ، لينتهي هذا الحكم البائس المفزع في حاضره و ماضيه ، ليهلم بعدها أجيال قادمة أحست أن أرضها عادت لها ، و كرامتها المهدورة عادت لها لإن الإنسان من دونها يضحى حشرة خاسرة عديمة القيمة ، لينتج السؤال البديهي هنا عن ماهية المستحيل المستعصي على الفهم البشري ، و الذي مثل ثورة في الشرق الأوسط مثلما اعترف راجان مينون أستاذ علم السياسة في جامعة نيويورك ، و كذلك المراسل الصحفي توم ستفسيون .
 
 
نحو المستحيل :الثورة التي كتبت شهادة وفاة الحكم الأكثر فظاعة في التاريخ العربي
 
 ينفرد حكم العائلة الأسدية بالعديد من الصفات القمعية ، و التي إن وجدت صفة في دولة ما لدمرتها بغير عودة
، لإنه نظام عسكري أقلوي استبدادي طائفي يستخدم الطائفية لزرع الفرقة و الانقسام ، و كذلك الاحتكار الحكومي و العسكري المخصص حصرًا للعلويين و الشيعة لتثبيت أرجلهم و شراء ولائهم الحقيقي و الدائم مما زرع مشكلة كبيرة ألا و هي الطائفية السورية الممتدة لمدة قرن من الزمان .
 
تعود أصول الطائفية السورية للاحتلال الفرنسي الذي فعل لعبة قذرة محتواها تقسيم الدولة لدويلات بحسب الطائفة الدينية و العرقية حتى قسمتها لثلاث دول منفصلة ، سرعان ما فشلت بسبب مقاومة السوريين و جهادهم الباسل ، فتغيرت الخطة لتتحول بإعادة تشكيل الجيش لجيش طائفي أقلوي بحيث لا يعفى المجند من التجنيد الإجباري من عذاب التجنيد إلا بمبلغ كبير لم يتمكن دفعه إلا السنة من الطبقة المتوسطة ، و لهذا وفقًا للمؤرخ حنا بطاطو في كتابه فلاحو سوريا ، و استمر الجيش يتكون من ٨٥%من العلويين، مسببًا بذلك سلسلة من الانقلابات العسكرية على مدار عشر سنوات من ١٩٦٠ ل١٩٧٠ حتى انقلاب حافظ الأسد.
 
فبعد تولي الأسد الأب ، بنى عدة سجون كبرى و عدة مراكز تأهيل و اعتقال وصلت ل٨٠ فرع مختلف منهم صيدنايا ، و فرع فلسطين،  و سجن تدمر العسكري التي تحولت لمسالخ بشرية ، و مقابر بشرية في أعوام ما بعد نكسة يونيو ١٩٦٧ م ، حتى وصلت الأعداد من المختفين قسريًا في سورية من مختلف الجنسيات لقرابة ١٠٠ ألف مواطن ، فضلًا عن السوريين ، لكن عدد القتلي في مجزرة حماة عام ١٩٧٢ تفوق الوحشية المتوقعة النابعة من حكم استبدادي دموي لإنه حكم يريد فيه الفرد أن يتحول لإله مبجل ليس إلا ، و لعل هذا ما رسخه حافظ الأسد ، و دحر تمامًا مع مشاهد تكسير التماثيل الآسنة التي اكتظت بها الشوارع حتى وصفت سورية في الأدبيات السياسية بمزرعة الأسد أو المملكة الأسدية .
 
ففي سياق منفصل، بنت العائلة الأسدية أسس الوشاية السياسية ، و الغدر الخبيث غير الإبلاغات الكيدية التي ملأت الأدراج ،  متفوقة على العديد  من السجون ، و الديكتاتوريات القوية مثل الاتحاد السوفيتي،  و ألمانيا الشرقية و يوغوسلافيا ما حول البلد لسجنين أحدهما داخلي ،  و الآخر جدرانه السماء و حدوده تنتهى بحدود البلد المقيم بها لتتحول بذلك لمجرد سلخانة حية تستنزف أعمار سكانها ولا تلقيهم غير عظام ، لو كان محظوظًا بالهروب منها عبر  الهجرة للخارج أو عبر الابتعاث لإكمال الدراسة بمختلف أشكالها و مراحلها المتنوعة .
 
فكان من غير الممكن ، أو المستحيل سياسيًا أو اجتماعيًا أن يتبخر نظام وحشي معمن في الإجرام ، لكن إفلاس و جفاف وسائل النظام ، فنهاية حقبة الأسد تحولت سورية لبلد مهترأة غير آمنة مستباحة دأب الكيان الإسرائيلي على قصفها ، لدرجة أنها قصفت السفارة الإيرانية في دمشق ، فأنهته الثورة السورية في غضون ١٢ يوم فقط بعملية منضبطة دقيقة، أغلقت صفحة أفظع عائلة سياسية في التاريخ العربي كافة ، تاركة تحديات و معوقات جمة تترك الأسئلة الملحة حول نجاح الثورة السورية كما ينبغي و تعود لمكانتها السابقة باعتبارها دار السلام و منبع العلم الرفيع .
 
 
لنؤسس سورية جديدة: في إعادة طرح سؤال كبير إجابته غامضة بشكل كبير
 
طرح أستاذ علم الاقتصاد السوري أسامة القاضي إشكاليات هامة للغاية فيما يتعلق بتحويل سورية لسنغافورة في حلقة مطولة في بودكاست الشرق ، لكن التحديات التي تواجه سورية لا تستلزم نموذج سنغافورة في الترفيه ، و الرخاء الاقتصادي ليس فقط لنقصانه الواضح ، و عواره في عدة نقاط أهمها الأيدولوجيا الاستهلاكية التي لا تطبق إلا للالهاء و تغيب العقول بطريقة شبه أبدية ،ليطرح سؤال حيوي مفاده إمكانية عمل إسرائيل بكلام الدكتور أسامة القاضي و التخلي عن أحلامها التوسيعية التلمودية .
 
فإن تشبع كل مواطن صهيوني بتلك الأفكار المدمرة متجذر بقوة لدرجة بدء إسرائيل بالفعل الاشتباك مع أهالي سورية بمنتهى القسوة و الدموية ، فعندما اشتبك أهالي قرية كويا معهم فتراجع الاحتلال بريًا ليفاجيء الأهالي بقصف مشدد مكثف يباغت ب٧ شهداء،  و كذلك العشرات من المصابين بين خطيرة و حرجة و عادية الأمر الذي أثار تساؤل البعض حول موقف أحمد الشرع الذي التزم الصمت و مناشدة السوريين للتصدي لهم ، وسط ترقب تركي حول استخدام كروت ضغط عديدة من شأنها ردع القصف أو على أقل تقدير إبطاء وتيرته وفقًا لما ذكرته مجموعة الأزمات الدولية نظرًا لامتلاكها قاعدة عسكرية في موقع استراتيجي .


 
في سياق متصل، تريد إسرائيل تقسيم سورية بحسب تقارير صحفية لخمسة دويلات مهكيلة طائفيًا تحت شعار توفير الحماية لهم و الأمان كذلك فقط من أجل الحفاظ على سورية ضعيفة ممزعة وسط حالة من التخبط و الذهول الممزوجين بالحفاظ على ثوابت الدولة المزعومة الإبادية حسبما يقول ديفيد هيرست في مقال له على موقع ميدل إيست أي ، و إرادتها باستخدام أقلية الدروز ككارت ضغط ، و افتعال أزمات و تضخيمها بكثير مثلما حدث في أزمة جرمانا التي تحولت من إطلاق نار لمشكلة إقليمية، فضلًا عن استعداد الاحتلال لتمويل دولتهم الجديدة بمبلغ يعادل المليار دولار بمعدل نصف سنوي ، أي يوجد نية مبيتة مشتركة للتنفيذ العملي للمشروع الذي لن يضيع عنصر الأكراد في اللعبة القذرة .

لحسن الحظ ، قلب أحمد الشرع الطاولة عليهم باتفاق مع قسد المدعومة أمريكيًا ، بالتنسيق مع تركيا مما يفتح الباب لسيناهوريات عدة منها على سبيل المثال الدخول غير المباشر في السياسات السورية ، أو إنهاء الصدامات العسكرية و تحويلها لجزء من قوات الجيش أو مجرد حركة ممهدة للانقلاب الناعم مثلما حدث في كوبا ، و تشيلي و بولفيا عقب الحرب العالمية الثانية حينما زرعت أمريكا عدة جواسيس متخفين بأسماء مستعارة ليدمروا البلدان ، لكن فشلت الخطة بسبب الثورات الشعبية و الحركات المسلحة ضد المستبدين اللاتينين.

في النهاية ، لابد من الصدام بالتحديات المباشرة و العقبات المبطنة و الألغام المتمركزة للثورة السورية، إكمالًا لمسيرة ثورة مجيدة ، و بناء لسورية جديدة قوامها العدل و السلام المبني على احترام القوة و المنعة للدول لا الانبطاح أو المهادنات المنمقة تحت شعارات مختلفة ، و ممزوجة بالتقعر و التكلف اللغوي الملغم مخافة كذلك من تكرار حالات التطبيع العلني الذي أوصل الشعوب المحكومة لدرجة الرجعية و البهائمية من أجل فقط حماية مصالح إسرائيل و أهدافها في التوسع التمددي و التوسعي ، و تحقيق حلم إسرائيل الكبرى بشكله الفعلي ، و لذلك الحل يبدو غامضًا يحتاج جملة للصبر و التشاور و العطاء و الحكمة ، لإن سياسات إعادة البناء في بلد مثل سورية لابد له من إجماع يحميه و قوة بشرية منتمية بجد للوطن بحسب ما ذكر هانس ميلانوس في مقال له على معهد الشرق الأوسط في عام ٢٠١٣ م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى