اخبار عالمية

التهجير العمراني: حينما تتحول إعادة الاعمار لأداة استعمارية 

من فيتنام لبيرو :إعادة الإعمار كشر مطلق

كتب/ مصطفى نصار
بعد الانسحاب الضخم لترامب عن تصريحاته بخصوص احتلال غزة و تحويلها لريفيرا الشرق الأوسط ، فمن الجدير بالملاحظة أن المماطلة في الرغبة لاحتلال غزة و إعادة إعمارها مؤقتًا نهج متبع و نمط ثابت مطبق في عدة دول قبيل ذلك ، لكنه أتى بنتائج مريرة و عكسية أكثر مما تتوقع الولايات المتحدة نفسها بحق ، منذ أيام ما بعد الحرب العالمية الثانية.


 
ففي ذلك الأثناء ، أعلنت الولايات المتحدة عن إعادة الإعمار الكامل لدول أوربا المدمرة في مقابل شروط تخدم مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في منع الاشتراكية و الشيوعية من الانتشار الواسع للأفكار منذ حرب فيتنام عام ١٩٧١ و ١٩٧٤ ، حتى زلزل تشيلي و بركانيات بيرو عام ٢٠١٠ و ٢٠١٢ مرورًا بمشروع مارشال الوزير الماكر الذي وضع خطة معقدة أسماها البروفسور جوزيف ناي في مستقبل القوة بالمشروع “الرابح “و المرسخ لنفوذها لتتحول لقوى عظمى عبر السياسات الماكرة .
 
 
هكذا تحول العمارة لشر محض ، مما يعكس قدرة الدولة المتولية إعادة الإعمار على قدرة إعادة الهيكلية للمجتمعات ، و على رأسه المجتمع الألماني نفسه ، جاعلين المجتمع مهندسًا مثل الصلصال المرن ، عبر العديد من الإجراءات الجذابة تارة و المهيمنة تارة أخرى، و تتعدد بين التهجير،  أو الإخلاء القسري ، أو إعادة الهيكلة أو الإبدال الكبير للمجتمعات البدائية مما يعده كريستوفر هايداكي محو كامل للأسس المؤسسة للمجتمع البدائي بعكس مهمة المدينة الرئيسية التي أشار لها لويس ممفورد في كتابه الضخم تاريخ المدينة منذ القرن التاسع عشر حتى الآن .


 
ليكتمل الجزء الأخير من الهندسة بجعل الشركات تسيطر عليها بصرامة ، بطريقة من لا يعمل لا يستحق الحياة ليقلب الاستهلاك الرأسمالي بهذا النمط لما أسماه باتريك هايني التدين المسلع عاكسًا بذلك مدى التحول الضخم غير المجذر بخلاف ما طرحته سيمون فايل في كتابها التجذر ، و يتزامن هذه الاستراتيجية مكانة خاصة في السياسة الأمريكية بحسب كتاب الشركة لجويل بركان .


 
و يترسخ بعض الأهداف و الأغراض العمرانية التي تتورى خلف الستار الإنساني و الحقوقي الإغاثي ، و لعل تلك الأهداف وضحت في البلدان اللاتينية مثل بيرو و هايتي و بليز لسرقة مواردنا الغنية و شديدة الكثافة لاستغلالها . و مع الاستغلال و النهب السريع، يأتي التأطير العملي للفكرة العمرانية لتتشكل و تتموه بحسب حاجة الدولة الاستغلالية أو الاستعمارية لإن كما يقول والتر رودني في كتابه أوربا و التخلف في أفريقيا الاستعمار و إعادة الإعمار وجهين لعملة واحدة لاعتماد كليهما على المحو الشامل و الإبدال للسكان الأصليين ، ناهبين حتى عظام الشهداء و أعضائهم الداخلية .
 


تتخطى حدود إعادة الإعمار في بعض الأحيان الحدود لتصلح للتخويف و الذعر ، مثلما حدث مع فرنسا عقب الثورة الفرنسية من التحديث الفائق الذي حول باريس من مجرد مدينة ريفية جميلة لمدينة من الألواح الزجاجية و الخوف الجذري نتيجة التصاميم الجوفاء في حقبة عصر الإرهاب مما جعل المعماري و الفيلسوف بول فيريلو يؤكد في كتابه معمارية الخوف أن هذا المعمار الآلي يزرع ثقافة الخوف بداخل العقول بزرع الضخامة في المبنى و بالتالي التكلفة الباهظة للمبنى ، و هكذا تصبح إعادة الإعمار شر مطلق لا يأتي منه إلا القهر و القمع الممنهج ليتحول الفرد لمجرد ترس أو نفايات بشرية بحد تعبير زيجمونت باومان في كتاب الحياة السائلة .
 
لهذه الأسباب رفضت العديد من الدول إعادة الإعمار على الطراز الأمريكي عقب الخروج منها مثل أفغانستان و فيتنام لعدم رغبتهم بالتعرف على أسرارهم العسكرية ، و كذلك لعدم ترك مداخل لفرض هيمنة أو رهن قرارها السياسي و الاقتصادي مثلما حدث مع أوربا و اليابان بعدما تخلصا من إرثهما التوسيعي و أي أثر قوة تذكر ، مما أثار دهشة الاستاذ الدكتور رءوف عباس في موضوع نهضة اليابان السريعة و التي سرعان ما انفصلت عن الولايات المتحدة اقتصاديًا لكن ظلت حتى وقت قريب للغاية ، بالإضافة للتحول الجذري لكوكب تكنولوجي و صناعي ينافس وادي السليكون .


 
إعادة الإعمار أم الهيكلية : الكوارث كعوامل ربح!!
 
في دراسة غير منشورة عام ٢٠١٢ على موقع جامعة هارفارد ، فضح أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية و الجغرافيا ديفيد هارفي في دراسة بعنوان “السياسات النيولبيرالية ما بعد الكوارث :إعادة الإعمار أم إعادة الهيكلية ” ممارسات الشركات و الدول في استغلال الأزمات و الكوارث لتحقيق أرباح خيالية من الشركات الكبرى أو الحكومات الفاسدة و مستثمريها لعدة أغراض شريرة على رأسها شراء الأراضي أو إعادة الهيكلة عبر التخلص من طبقات اجتماعية على حساب الأغنياء و رجال الأعمال ، إنها التجارة الرابحة في العقارات الواسعة ، و الفسيحة ليس بغرض خدمي أو إنتاجي لما فيها من إحلال طبقي أو إبدال عنصري مع الاستغلال الأمثل للكوارث الطبيعية لإعادة تغيير شكل المدينة أو فكر الناس حيالها بعدم جدواها .
 

حدثت تلك الحالة بالفعل مرتين بمنتهى الوضوح و المباشرة ، حيث طرد الصيادين من ساحل سريلانكا في عام ٢٠٠٤ بعدما أكل تسوماني الأخضر و اليابس في الساحل ، متضمنًا عشش السكن للصيادين كلها فأصبحوا بلا مأوى . ففي تلك اللحظة ، بدلًا من أن تكون الدولة لهم عاملًا للتنمية و إعادة العمران ، استسلمت لعروض الشركات الاستثمارية بطردهم للأبد ، و تحويل الأراضي التي طالما حلموا باقتنانها نظرًا لقيمتها السوقية لفنادق و منتجعات سياحية فاخرة للأغنياء فقط.


 
ووفقًا لكتاب نعومي كلاين عقيدة الصدمة ، أصدرت الأهالي المتضررة بيانًا بشكوى رسمية للحكومة الفاسدة آنذاك أملًا في نصرتهم أو مواجهة التهجير لكن ما حدث هو أن الحكومة سرعت وتيرة الإخلاء و التهجير لسيطرة الأغنياء و رجال الأعمال الذين وعدوا بإرجاعهم إليها دون جدوى  أو تغيير ، ليغلق الملف للأبد بالاستيلاء على الأراضي و قمع الصيادين المساكين دون حتى تعويض مناسب ملبيء لاحتياجاتهم الأساسية، مقسمين بين مشرد و ناقل أعماله ، و سكنهم الحضون و الدافئ في رسالة احتكارية احتقارية لهم على حساب الأرباح و العقارات في تطبيق لمبدأ العمارة المذيبة بحسب تعبير عالم الاجتماع زيجمونت باومان في كتاب الإدارة السائلة في العالم .


 
عطفًا على ذلك، يمتزج ذلك الاستغلال الكارثي للكوارث بين القهر و نزع القيم في مقابل المشاريع العقارية التي تهدف لإفادة السكان بالأساس ،لكن ما حدث عكس الهدف تمامًا لإن البناء على حساب البشر جنون محض و شر مطلق يضر بالجميع مغفلًا أهمية و حيوية الأبعاد الإنسانية ، أو البعد العمراني الإنساني كما أشار البروفسور د.على عبد الرؤوف ، و إلا أصبحت المدينة وحشية و موحشة كما أشارت نان إيلي في كتابها معمار الخوف التي تجادل فيه بمنتهى الجدية ، ملمحًا على المدينة قد تتحول لسجن كبير ، و الإنسان لمجرد ترس فيها لا مراعاة حقيقة له و لا ذكرياته ، فهي هدم جذري لجميع ملامحه الإنسانية من ذكريات حميمة و أفكار جيدة و قرب من مكان العمل لتمحي كل ذلك بالبلودزر . إن اللبيرالية التقليدية و النيولبيرالية أشقاء في المنظومة العمرانية لما لديها من تشابه غائي و تداخل في الاستراتيجات ، و تأتي بعدها الغاية التي تحدث عنها تشارلز تيللي في كتابه الديمقراطية. فهكذا تتشكل الصدمات سواء كانت مصطنعة أو حقيقة ، لما فيها من فواجع ضخمة لكنها تحطمت في حالات الحرب المستمرة ، و غير المتكافئة منها فيتنام و غزة اللتين دمرتا بالكلية الأساس الجذري لممانعتهم على مستويات عديدة أولها الوعي الجمعي و الصمود و الإدارة الفعالة و القوية .


 
فيتنام أفغانستان: غزيتان مختلفتان لكابوس واحد
 
 
في كتاب حرب المستضعفين  ، أفرد الصحفي الحربي روبرت تابر حقيقة لا مفر منها ، متضمنة فشل القوات المنظمة للعصابات و حركات التحرر الوطني مثل الفيت كونج التي هزمت فرنسا و أمريكا خلف بعض في مدى أقل من ١٠ سنوات ، رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي اخترقت حاجز ال ٢٠٠ألف قتيل و ١٢مليون لاجئ ، و كذلك فازوا في خمسة معارك كبرى حتى اعترف المقبور هنري كسيجنير في مقال و مقابلة له أن تنظيماتها و أسلوبها يشبه حماس ، متفقًا مع ملاحظة الفيلسوف إريك هوفر حيال “الصدق الخالص و النقي ” مع الاكتىاب و الشدة الكبيرة التي تمر بالبلاد ، و نفس الفكرة تكررت مع أفغانستان حينما هزمت أمريكا مستغلة بذلك الأراضي الوعرة و التسليح البسيط السريع و المؤلم . فيضع ترامب الولايات المتحدة، واقعيًا و حقيقيًا ، أمام اختبار قد يتحول لكابوس أسود بعد تجارب مريرة تتطابق مع غزة في كل العوامل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى