د.أيمن صابر سعيد يكتب: ابن قيس الرقيات شاعر قريش

ابن قيس الرقيات شاعر قريش
دار حوار بيني وبين شاعر من الشعراء الحداثيين، عن الشعر عامة، وفي أثناء حديثنا تطرقنا إلى أنني تناولت في دراستي للماجستير شعر عبيد الله بن قيس الرقيات، من سنوات طويلة، ودار بيننا حوار عن خصائص شعره وأهم ما يمتاز به أو ينفرد به عن غيره، وبعد هذا الحوار الماتع تذكرت أنني لم أتناول هذا الشاعر الذي استغرقت في دراسته بضع سنوات، وأنني بالفعل قصرت في ذلك تقصيرا جعلني أشعر بأنني كيف لم أنشر عنه ما يفيد الناس، في هذا الشأن، فقد أفدت منه إفادة جمة، على جميع المستويات والفروع المختلفة المتعلقة باللغة والأدب وما يتعلق بهما.
وقد أخذتني الذكريات -وربما زادها لقائي بأستاذنا الدكتور/ محمد يونس عبد العال -متعه الله بالصحة والعافية- في المجلس الأعلى للثقافة، وموقفه الذي لا أنساه ما دمت حيًّا، رغم أنني تخصصت في الدراسات اللغوية؛ أي بعيدا عن تخصصه وإشرافه، في محاولاته الكثيرة في أن أسجل موضوع الماجستير؛ وما أجملها من لحظة حين دخلت السيمنار، في حضوره ودعمه والموافقة على الموضوع، كل هذا له علاقة وطيدة بشاعرنا ابن قيس الرقيات، فهل كان ابن قيس الرقيات يستحق معاناة سنوات طوال، من البحث والدراسة، هذا ما سيتضح لنا، في أثناء تناول شعره، وأهم الظواهر التي انفرد بها عن غيره.
ولما كان من الطبيعي أن أبدأ بالتعريف بالشاعر، وحياته، وبيئته التى نشأ فيها، وملامح عصره، وبيان الأغراض الشعرية المتنوعة الواردة في شعره من مدح وفخر وغزل وحكمة وذم ورثاء وحسرة وعتاب وتمنٍ وهجاء…إلخ؛ حيث تجاوز ديوان اين قيس الرقيات المطبوع الألف بيت ببيت، وهو شعر موزون مقفى، وقيل في عصور الاحتجاج اللغوي، وهو ما يعني بداية أننا أمام شاعر من جيل العمالقة، لا يشق له غبار، وهو ما ذكره النقاد في كتبهم وأبحاثهم.
التعريف بابن قيس الرقيات
اختلف الرواة في اسم ابن قيس: هل هو عبد الله أو عبيد الله؟ حيث ذكره الجاحظ، والمبرد باسم عبد الله، وإليه ذهب المرزباني. كما ذكر ابن سلام في طبقات الشعراء أن اسمه عبد الله، وترجم له أبو الفرج في الأغاني بهذا الاسم. أما ابن قتيبة، فذكر أن اسمه عبيد الله، وورد في الخزانة كذلك.
أما نسبه؛ فهو عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن أهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب، وأمه قتيلة بنت وهب بن عبد الله بن ربيعة بن طريف من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ فهو قرشي الأبويين ولهذا النسب الشريف العريق الأصيل أثر كبير في حياته وشعره.
وكما اختلف النحاة في اسمه اختلفوا في سبب تسميته بالرقيات، فقد ذكر ابن سلام أنه سمي بالرقيات؛ لأن جدات له متتابعة سميت برقية، وذكر ابن قتيبة أنه لقب بذلك؛ لأنه كان يشبب بثلاث نسوة يقال لهن كلهن رقية، وإلى هذا السبب ذهب أبو الفرج، وذكر أنهن رقية بنت عبد الواحد، وابنة عم لها، وامرأة من بني أمية، ولكن شعره الغزلي كان أكثره في رقية بنت عبد الواحد.
كانت ولادة عبيد الله في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بين الثالث عشر للهجرة والثالث والعشرين على خلاف بين الرواة. وقد نشأ ابن قيس في مكة، وانتقل منها في مقتبل عمره إلى المدينة المنورة، وخالط المغنين والمغنيات، وقد أثبتت كتب الأدب مقطوعات كثيرة من شعره في الغزل نظمها للغناء، ويعد ابن قيس الرقيات -كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني- شاعر قريش في الإسلام.
وكانت قبيلته تشتهر بالبأس والشجاعة، قال عنها أبو الفرج في أغانيه كان يقال لبني معيص بن عامر بن لؤي، وبني محارب بن فهر الأجربان من أهل تهامة، وكانا متحالفين، وإنما قيل لهما ذلك من شدة بأسهما وعرهما من ناوأهما كما يعر الجرب، ويفتخر ابن قيس في شعره بقبيلته كما يفتخر بقرشيته يقول:
نحن الصريح إذا قري
ش قام منها الناسب
من سرها وأرومها
إذ للأروم مراتب
عاش ابن قيس الرقيات في المدينة المنورة وصور في شعره الكثير من الحوادث التي شهدها أثناء خلافة معاوية، وقد اتصل في هذه الفترة بعبد الله بن جعفر، وظهر ذلك في مدائحه التي يعج بها ديوانه، ثم انتقل إلى الجزيرة، في خلافة يزيد بن معاوية وهناك بلغته أخبار موقعة الحرة ومقتل العديد من أهله وقومه فيها فيجا الأمويين وأعلن في شعره مدى كراهيته لهم وأنهم صاروا عنده بمثابة الأعداء، ونقم على يزيد بن معاوية.
وكان ممن قتل فيها من أهل بيته أسامة، وسعد ابني أخيه عبد الله بن قيس الرقيات، وقد رثاهم في شعره رثاء حارا، وبعد موت يزيد بن معاوية غادر عبيد الله الجزيرة، وقصد إلى فلسطين ثم تركها إلى العراق حين ولي مصعب بن الزبير شؤونه واتصل به ابن قيس الرقيات، وظل ملازما له يمدحه ويؤيد سياسته حتى قتل عبد الملك بن مروان مصعبا في السنة الواحدة والسبعين للهجرة بعد أن أصبح عبيد الله شاعر الزبيريين الأول. ثم انتقل عبيد الله إلى الكوفة وأقام فيها عاما كاملاً متخفيا في دار امراة تدعى كثيرة -وقد تردد اسمها كثيراً في أشعاره- خوفا من بطش عبد الملك به وقتله.
ثم قدم إلى المدينة المنورة وأقام عند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي أرسل إلى أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك وطلب منها أن تشفع لعبيد الله عند عمها عبد الملك بن مروان، وتحقق الفوز لعبيد الله بعفو عبد الملك عنه فمثل بين يدي عبد الملك وامتدحه بشعره، ولكن علاقته بعبد الملك لم تكن وطيدة، بل كانت أوثق بأخيه بشر بن مروان والى العراق الذي كان يجزل له المال والعطاء. وينتقل ابن قيس الرقيات إلى مصر مادحًا عبد العزيز بن مروان والي مصر فيغضب منه عبد الملك الأن أخاه كان يتطلع للخلافة، وفي هذا التحول تأييد له في الوقت الذي يتطلع فيه عبد الملك أن تكون الخلافة لابنه الوليد (1)، وهكذا استمرت حياة ابن قيس الرقيات متنقلاً بين مكة والمدينة لمدح ابن جعفر ونيل عطائه، وبين مصر لمدح عبد العزيز بن مروان، وانتهت حياة ابن قيس في أواخر خلافة عبد الملك بن مروان سنة ٨٤ هـ وبداية خلافة ابنه الوليد سنة ٨٧هـ على خلاف بين الرواة في تحديد سنة الوفاة.
شعر ابن قيس الرقيات
لقد تفرد ابن قيس الرقيات بلغة شعرية مميزة تختلف عن الشعراء السابقين له كالجاهلين مثلاً، كما تختلف عن لغة معاصرية كجرير والفرزدق. يقول الدكتور شوقي ضيف عن لغة ابن قيس الرقبات الشعرية لغة ابن قيس ليست اللغة القديمة الزاخرة بالغريب التي نعرفها عند لبيد مثلاً، بل ليست اللغة التي نعرفها عند شعراء العراق المعاصرين له من أمثال جرير والفرزدق، وفرق بعيد جدا بين ديوان الفرزدق مثلاً وديوان ابن قيس، فعند الأول نجد الألفاظ الغربية تنصب علينا انصبابا كما تنصب علينا العبارات الملتوية المعقدة، بينما عند الثاني لا نجد نتوءا في التعبير ولا لفظا مهجوراً فالأساليب الفنية أصبحت سهلة مستساغة تحت تأثير ما أصاب النفوس في الحجاز من تغير أساليب الحياة، وتعمق ألوان الحضارات التي غرقوا فيها إلى آذانهم.
إن اللغة عند ابن قيس تميزت بالسهولة والبعد عن التعقيد واللفظ المهجور، ويعزو الدكتور شوقي ضيف ذلك إلى حياة الترف، وتأثير المجتمع في الحجاز بالحضارة ولاسيما أن مكة والمدينة من أكثر المناطق زخرا بالمغنين الذين اتصل بهم الشاعر في حياته ونظم مقطوعات من شعره للغناء.
الأغراض الشعرية
والأغراض الشعرية التي نظم فيها ابن قيس تنوعت بين الغزل والمدح والرثاء والهجاء والفخر والحكمة…إلخ.
فقد كان الغزل في شعر ابن قيس الرقيات منقسما إلى قسمين:
الأول: الغزل الوجداني الصادق الذي تغني فيه برقية وتميز بصدق العاطفة وحرارة الوجدان ودقة المشاعر ورهافة الحس.
والثاني: الغزل السياسي الذي كان في مطالع قصائدة السياسية، وقد اتخذه وسيلة للنيل من بني أمية وهجائهم.
أما المدح فقد نظم فيه شعرًا كثيرًا حيث إنه امتدح في شعره مصعب بن الزبير، وعبد الله ابن جعفر، وطلحة الطلحات، وغيرهم. وكانت قصائده صادقة اللهجة بعيدة عن الرياء والكذب. أما مدحه للأمويين فقد كان خوفا من بطشهم، وليس ميلاً لهم . أو أنه رأى في الأمويين قوة يمكنه الاعتماد عليها في استعادة ملك قريش وجاءت مدائحه بلغة سهلة خفيفة وبذوق حضري جديد.
أما الرثاء في شعر ابن قيس الرقيات، فقد كان بسبب الأحداث والمحن التي عاشها، فقد رثى في شعره أهله وخاصة ابني أخيه عبد الله ورثى أصحابه، ولا سيما عبد الله بن جعفر كما رثى مصعب بن الزبير وكان رثاؤه مقطوعات قصيرة تسيل فيها النفس لشدة حزنه وكان ينشده بلغة تحمل لوعة الألم، وتلهب المشاعر، وفي الوقت نفسه قريبة من مألوف الناس. وأما رئاؤه لغيرهم فقد كان أقرب إلى المديح واستعادة ذكر العظماء منهم.
وأما الهجاء عند ابن قيس الرقيات فهو من أقل الأغراض التي نظم فيها، وهجاؤه لطيف أقرب إلى العتب منه إلى الهجاء، فهو لا يستعمل الألفاظ البذيئة التي تصم الآذان، ولا يميل إلى القدحوالإقذاع في هجاءه، كما نرى عند كبار شعراء عصره كـ جرير والفرزدق، ولعل هذا بسبب رقة الشعور التي يتميز بها الشاعر وبعده عن الخوض في أعراض الناس أو وصفهم بما يسوءهم.
ويتسم شعر ابن قيس الرقيات برقة الإحساس ورشاقة الأسلوب والألفاظ المختارة بعناية والعاطفة الجياشة. حيث إن الألفاظ التي استخدمها هي الألفاظ الحية التي تعيش مع الناس في هذا المجتمع، ففيها تجانس المفردات واستواء النسج فلا يعرف الغرابة، ولا يعترف بالتعقيد والخشونة، وعباراته سهلة فيها رقة ونعومة ودقة، كما أننا نلاحظ أن أسلوبه متأثر إلى حد كبير بالقرآن الكريم.
يقول الدكتور شوقي ضيف: “من أهم ما يميز شعره في ديوانه رقة حس بالغة، وهي رقة تعبر عن كل ما أصاب القوم في شعورهم وأذواقهم تحت تأثير الحضارة الجديدة، رقة نشاهدها عند الرجال المهذبين في الأمة حيث نتحضر فنرى جماعة يدق إحساسهم دقة بالغة.. وشعر ابن قيس من هذه الناحية ينسجم انسجاما تاما مع عصره، ولعل هذا هو أهم سبب يتيح له هذه الرشاقة التي تميز أسلوبه، والتي تجعلنا نسحر به كلما قرأنا فيه، فهو أسلوب تام من جهة الألفاظ وانتخابها، ومن جهة العواطف والتعبير عنها تعبيراً حارًا حينما تطلب الحرارة، و
هادئا حينما يطلب الهدوء”.