فن وثقافة

حمدي فراج كوكب يكتب: صوت المرأة في الشعر الجاهلي حضور الشكل وغياب الجوهر

صوت المرأة في الشعر الجاهلي، لطالما كان الشعر مرآةً تعكس مجتمعاتها، تارةً بأمانةٍ وتارةً بتشويشٍ متعمَّد، لذا حين نغوص في بحر الشعر الجاهلي الفسيح، نصطدم بحضورٍ طاغٍ للمرأة، حضورٌ يكاد يلامس كل بيت وكل قافية، فهي المعشوقة التي يُتغنّى بها، والمحبوبة التي يُبكى عليها، والفخر الذي يُتباهى به، والزينة التي تُعلّق على جدران القصائد. لكن، في خضم هذا الحضور الكثيف: هل كان هذا الحضور اعترافًا بكيان المرأة، أم أنه مجرد استغلال لشكلها الخارجي دون الغوص في جوهرها؟ هل كانت المرأة في هذا الشعر “صوتًا” يعبر عن ذاته، أم مجرد “موضوع” يُكتب عنه، تُستعمل صورتها كرمز أو أداة للفخر، أو وسيلة للهجاء؟

حمدي فراج كوكب يكتب: صوت المرأة في الشعر الجاهلي حضور الشكل وغياب الجوهر

إن المتأمل للقصيدة الجاهلية سرعان ما يكتشف أن هذا “الحضور” ليس إلا صورةً جامدة، غرضًا شعريًا مجرّدًا، أو رمزًا للزينة والنسب والدم؛ فالمرأة لم تكن هنا كائنًا حيًا له وعيه وكرامته، بل غالبًا ما كانت تظهر كديكورٍ يُزيّن مشهد الشاعر، أو كأداةٍ تُستَخدم لتأكيد مكانة الرجل.

فهل كانت المرأة الجاهلية غائبة حقًا عن ذاتها في هذا الشعر، أم أن الشاعر هو من فرض عليها هذا الغياب، بينما يتغنى بملامحها في كل بيت من أبياته، وكأنه يرى فيها شكلاً بلا روح؟

بالفعل إننا نجد أن الغزل الجاهلي من أبرز أبواب الشعر وأكثرها شيوعًا، لكنه كان غزلًا يفتقر إلى العمق الوجدانيّ، أو السرد لعلاقةٍ إنسانيةٍ حقيقيةٍ تتجاوز السطح، فلم يكن هذا الغزل احتفاءً بالروح، أو تجسيدًا لمشاعر الحب النبيلة، بل كان وصفًا للمرأة، وصفًا سطحيًا خارجيًا فقط، فالمرأة هنا، في هذا الشعر يُركز على مظهرها الخارجي دون الإشارة إلى أي جانب شعوري.

فالجاهلي يصور المرأة كلوحة جميلة تُبهج النظر، لكنه لا يتجاوز هذا الجمال السطحي ليتعمق في مشاعرها، وأفكارها، أو روحها، وهي صورة تُرى، لا روح تُحس، مما يؤكد غياب الجوهر الإنساني للمرأة في هذا النوع من الغزل، فهي ليست ذات قلبٍ نابض، أو عقلٍ مفكر، أو موقفٍ يُحتَرَم؛ بل هي محض كائنٍ يُسقط عليه الشاعر قصيدته، لا شريكًا يُبادله المشاعر والأحاسيس.

فهي كيان مؤثر في نفس الرجل، لكنها لا تُمنح مساحة للتعبير عن مشاعرها، فهي محور الحدث العاطفي، لكنها تبقى خارج دائرة الفاعل الواعي بمشاعره، مما يؤكد استمرار فكرة أن المرأة “موضوع” للتجربة الشعرية الذكورية، لا “ذات” فاعلة فيها، فالوصف العام للمرأة في الغزل الجاهلي كان غالبًا حسيًا، فالتركيز ينصب على المظهر الخارجي، أو الأثر الذي تتركه على الشاعر، لا على ذاتها كإنسان.

وكثيرًا ما يتباهى الشاعر الجاهلي بكونه محبوبًا من النساء، أو أنه مرغوبٌ فيه رغم فقره أو قبحه أو مكانته المتواضعة، وفي هذه الحالة، تتحول المرأة إلى مجرد أداةٍ، لا يُسأل هنا عن طموحاتها، وأحلامها؛ بل يُروى عنها فقط ما يؤكد مكانة الرجل ويُعلي من شأنه.

فعندما يتغنّى عنترة بن شداد بعشق عبلة قائلاً، مركزًا على فعلها المرتبط به لا بذاتها:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ
مني، وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي

فالشاعر هنا يُظهر قوة الحب والولاء لعبلة، فهو حتى في خضمِّ الحرب والموت يتذكَّرها، ما يدل على شدة عشقه وصدق وجدانه، وفي ذات الوقت يُفاخر ببطولته: فحتى وهو يُجرح ويتلقى الطعنات، فذكر عبلة لا يُفارقه. ويتضح أن المحور الأساسي هو “عنترة” الفارس، لا “عبلة” الإنسانة، ولا نعرف شيئًا عن عبلة نفسها: ما الذي تفكر فيه؟ ما الذي تريده؟ هل هذا العشق متبادل حقًا من عمق ذاتها أم أنه مفروضٌ عليها؟ هي مجرد رمزٍ للفخر الذكوريّ، وليس شخصيةً مكتملةً لها وجودها المستقل.

وفي فن الهجاء، الذي كان مزدهرًا في العصر الجاهلي، يُستخدم النيل من النساء كوسيلة للنيل من الرجال، فتتحول المرأة إلى رمز للعار والذل، لا إنسانة تُهان أو تُنصف. وهي لا تُهاجَم لذاتها، لا تُنتقد لأفعالها أو أقوالها، بل تُستخدم كأداة لإذلال الرجل والتقليل من شأنه. فترمى سمعتها، وكرامتها وتتحول إلى ساحة معركة بين الرجال، وتُحارب وتُشتم، دون أن يكون لها صوتٌ يدافع عنها أو يُعبر عن ألمها. فهي مجرد وسيلة في لعبةٍ ذكوريةٍ قاسية.

ولعل من أكثر الظواهر لفتًا للانتباه في الشعر الجاهلي هو الغياب شبه التام لقصائد معروفة كتبتها امرأة، باستثناء شذرات قليلة كأبيات الخنساء في رثاء أخيها صخر، والتي تعد استثناءً يؤكد القاعدة، وحتى في رثائها، كان جلَّ حديثها عن الفقيد وبطولته، ولم يكن تركيزها على تجربتها الذاتية كامرأة فقدت أخاها، بل كان في سياق البطولة والفخر بخصاله.

فعلى الرغم من وجود شعر نسائي في تلك الفترة، إلا أنه كان محدودًا للغاية، وغالبًا ما كان يُعبر عنه من خلال تأطير ذكوري. فالمرأة، رغم تواجدها في مواضيع الشعر، تبقى محكومة بآراء الشعراء ومكتفيًا بتصوير انطباعاتهم. كان يُنظر إلى المرأة في كثير من الأحيان كملحق للرجل، يُستخدم لتعزيز الشجاعات والبطولات، دون إعطائها فرصة للتعبير عن ذاتها أو قصتها.

ولم يكن للمرأة صوتٌ شعريٌ مستقلٌ ومسموع، ولم يكن لها نصٌّ تُعبّر فيه عن رغبتها، أو رفضها، أو خوفها، أو حتى حبها الحقيقيّ الذي ينبع من ذاتها، حتى عندما تُذكر في سياق الرثاء، تُذكر غالبًا كأمٍّ أو أختٍ لفارسٍ مات، لا كامرأةٍ فقدت إنسانًا تحبه لذاته، وتبكي عليه من منطلق مشاعرها الخاصة.

فأين هي قصيدة “المرأة” التي تقول فيها: “أنا أريد، أنا أختار، أنا أغضب، أنا أحب…”؟ حيث لم يسمح العصر، ولم يسمح المجتمع بذكوريته وسلطته، ولم يسمح الشعر ذاته الذي كرّس تلك الصورة النمطية للمرأة بالتعبير عن ذاتها، فالمرأة كانت حبيسة الدور الاجتماعي الذي حدده لها الرجل، ولم يكن للشعر أن يخرج عن هذه القيود، بل كان غالبًا يعززها.

وقد تكون ظاهرة تغييب المرأة ناتجٌ عن بيئةٍ قاسيةٍ، ذكوريةٍ بطبعها، لا تؤمن بكيانها الكامل كإنسانةٍ مستقلة، فالقيود الاجتماعية والثقافية كانت حقيقيةً ومُحكمة. لكنّ الشعر، بما أنه أداة تعبيرٍ فائقة القوة، كان بإمكانه أن يسائل هذا الواقع، أن يخترقه بوعيٍ جديد، أو على الأقل أن يشكّك في مسلماته.

لكنّ ما حدث كان عكس ذلك فلقد كرّس الشعر الجاهليّ الصورة النمطية للمرأة، واحتفى بها، بل وخلّدها في وجدان الأجيال، فصار الشعر يكرّر بلا مللٍ ولا كللٍ أن المرأة هي حليةٌ يُفتخر بها، وأداةٌ للهجاء تُستَخدم لتدمير الخصوم، وصار يؤكد، بصمتٍ أو بضجيج، أن المرأة لا تتكلم، ولا تُعبّر عن ذاتها إلا من خلال الآخر.

ويمكننا القول إن المرأة لم تكن غائبةً عن الشعر الجاهلي من حيث الذكر؛ بل كانت حاضرةً بكثافةٍ في شكلها الخارجيّ وملامحها الظاهرة. لكنها كانت غائبةً تمامًا من حيث الاعتراف بإنسانيتها الكاملة، بعقلها، بقلبها، بوعيها، وبرغباتها الذاتية. ولقد ظهرت موصوفةً، لا واصفةً. مذكورةً في القصائد، لا مُعبّرةً عن ذاتها، حاضرةً في النص كصورةٍ ثابتةٍ، وغائبةً عن المعنى العميق وعن جوهر الإنسانية.

وإذا كان الشعر الجاهلي قد خلد أسماء رجالٍ قُتلوا في حروبٍ ضارية، وديارٍ بادت وتحولت إلى أطلال، وخيولٍ ركضت في ساحات الوغى؛ فإنه لم يُخلّد قلبًا أنثويًا ينبض بالحياة، قلبًا يقول: “أنا أحب… وأريد… وأكتب…”؛ فقد ظلّ هذا الصوت حبيسًا في أغوار النفس، ينتظر عصرًا آخر ليجد سبيله إلى التعبير والوجود الحقيقي.

وإذا نظرنا إلى محتوى العديد من القصائد، سنجد أن صوت المرأة الحقيقية ونظرتها للأمور يبقى مغيَّبًا في كثير من الأحيان، فالشعر يتحدث عنها، لكنه نادرًا ما يُتيح لها فرصة التعبير عن رؤيتها وتجربتها، إنه نوع من التعبير عن الاستبعاد الذي يعيشه الصوت الأنثوي، حيث تُحجم الكلمات وتتوقف الأفكار عن التحليق، وتُعاني المرأة كثيرًا في ظل قيود العرف والمجتمع، مما يحول صوتها إلى صدى للأصوات الذكورية.

ويتضح أن صوت المرأة في الشعر الجاهلي يعكس ظاهرة معقدة تتمثل في حضور الشكل وغياب الجوهر، وتعد الألفاظ والصور الجميلة التي تبرز المرأة جزءًا من نافذة الشعراء، لكنها تبقى دون عمق حقيقي يجسد تجربتها الإنسانية، فالمرأة، رغم كونها موضوعًا مركزيًا في القصائد، تبقى محصورة في إطار محدد يجعل صوتها يتلاشى، مما يحرم الأدب من غنى التجربة النسائية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى