اخبار عالمية

الانتقال الإبادي و الهمجية الثابتة: حرب إسرائيل اللامتناهية ضد الضفة الغربية

كتب: مصطفى نصار   
بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة في ١٠ فبراير من العام الجاري، تحولت دفة الحرب الإبادية للضفة الغربية بعد تسليم السلطة الفلسطينية الأمر لإسرائيل لإنهاء المقاومة في مخيمي جنين و طولكرم المعروفين بشدة و قوة الكتائب بهما لتنفيذ ما وصف “بالإرهاب و التمرد في الضفة الغربية “مما أدى لتحويل الجرائم الإسرائيلية الشنيعة من قتل عشوائي و قصف و حرق و المأساة الكبرى في التهجير و النزوح ، حيث نزح حوالي ٧٥ ألف شخص من المخيمات نحو المجهول ، و ترتب عليها عواقب مرعبة .


 
تربو إحدى العواقب في التهجير القسري في محاولة تنفيذ الخطط القديمة مثل الجنرالات و خطط الحسم العسكري ، و تكمن خطورة هذه الخطة الجهنمية في محاولة تصفية المقاومة عبر عدة خطوات أطلقها الوزير المتطرف بنسائيل سموطيش في أكتوبر ٢٠٢٣ بعد تأكيد الكيان القيام بعملياته في الضفة عقب الطوفان منعًا لفتح جبهات متعددة ، و ظنًا منهم أن القضاء على مقاومة الضفة سيسرع عملية “إعادة استعادة”الأراضي المفقودة و المنهوبة وفقًا للرؤية الإسرائيلية ، لكن في حقيقة الأمر تكمن الهدف الأساسي للخطة التحكم الكامل في الضفة ، و كذلك إعطاء سلطة عباس الهيمنة المنشودة التي طالما حلمت بها .


 
تنامت الآثار المروعة و التدمير منذ حوالي ١٠يناير الماضي عقب اقتحام قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية مخيم جنين ، و تكثيف القناصين و العربات المصافحة للتواجد في الشوارع ، و قد أثير الغضب الشعبي و انطلقت مظاهرات شعبية نتيجة عشوائية الحملة ، و التنسيق الأمنى الوثيق و العميق مع الكيان الإسرائيلي.


 
و قد تجاوزت أعداد الشهداء ٥٠٠ ، و المصابين بالآلاف التي وصلت لقنص المواطنين من بيوتهم ، مما أدى لقتل الطالبة الصحفية شذى صباغ برصاصة في الرأس ، مشعلًا الأوضاع الداخلية في الضفة الغربية ،فضلًا عن توسع الاقتحامات المنزلية و الاعتقالات و ردع العمليات العسكرية التي تقودها الفصائل العسكرية .
 
تاريخيًا، تغيرت السلطة الفلسطينية عدة مرات بحدة و جدية جعلت منها في حقيقة الأمر سلطة تابعة للاحتلال الإسرائيلي ، و خاصة مع تولية محمود عباس سلطة فتح عقب اغتيال ياسر عرفات ٢٠٠٤ ، و آنذاك عمل عباس على تقديم التنازلات المذلة و المهنية للاحتلال و خاصة تقليل عدد العمليات العسكرية من ٢٤٦٥ عملية سنويًا ل٢٥٦ عملية ، مما ساعد على خفض معدل الإرهاب و التطرف وفقًا لرئيس الكيان السابق إيهود باراك ،فضلًا عن تخفيض و تخفيف الحملات العسكرية منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ بحسب الباحث مثنى خميس ، الذي أكد أن عدم مشاركة الضفة في الطوفان يرجع لقمع السلطة و بطشها .
 
فانتقلت بذلك الحرب الإبادية من غزة للضفة الغربية ، بكل جرائمها لعجزها العملي و السياسي عن إيقاف الحرب بالفعل منذ دخولها في لبنان ، و اغتيال للصفين الأول و الثاني لحزب الله لعدة أسباب منها أحكام نتنياهو الداخلية المهددة بإنهاء مستقبله السياسي ، و كذلك رغبة إسرائيل في الظهور بمظهر “المحقق لأهدافه حتى لو على حساب حاضر البلد و مستقبلها “بحسب الصحفية الإسرائيلية بيل أنروير ، دافعة إياها لمحاولة سحق القضية الفلسطينية لمحاولة تعويضها عن المهانة الكبرى و “‘انحدارها المدوي “كما يقول الباحث و الكاتب آدم شانز على جميع المستويات بما فيها داعميها من الشركات و العلامات التجارية الكبرى .
 
الضم القمعي و الاستطيان القانوني :الاستعداد الأقصى لاختطاف الضفة بأكملها
 
استغلت إسرائيل الفرصة باعتبارها غنيمة من غنائم الحرب ، و أرادت بذلك أن تختطف الضفة بأكملها ، لذلك قامت بأربعة خطوات أحرقت بها معاهدة أوسلو و ما سبقها من معاهدات مهينة ، شأنها التصفية البطيئة للقضية الفلسطينية ، مستغلة بذلك ضعف حزب الله أو نفور الحزب عن خوض حرب مباشرة مع إسرائيل، فضلًا عن التواطؤ العربي الصريح الذي أعاد للكيان الحياة الاقتصادية، و أعطاه قبلة الحياة على المستوى الدبلوماسي ة السياسي و الذي انتقده كتاب إسرائيليون مناهضون للصهيونية مثل جدعون ليفي و المخرج يوفال إبراهيم  و مارون رانبورت .
 
بالعودة لمقال بيل أنروير ، من المدهش اتفاقها شبه الكلي مع الخبيرين في الشئون الإسرائيلية جمال جمعة و مهند مصطفى حيال ارتباط زيادة الاعتداءات المذكورة من المستوطنين الصهاينة ، و تحديدًا المتطرفين منهم  من ٤٧٨ ل٦٥٨ أي بمعدل النصف في خلال آخر شهرين فضلًا عن البناء على المنطقة ج و د و هي مناطق محظور التواجد فيها بأسلحة ثقيلة، عاكسًا انتهاكًا صارخًا لأوسلو ، من دون حتى إدانة عربية واضحة أو دفاع كلامي معتاد من السلطة في إشارة مبطنة لإنهاء الموضوع بسرعة شديدة و تكتم أشد ، و أما إعلاميًا فالمستجدات لا تغطى إلا بمقدار الربع أو أقل يوميًا حتى مع أكثر الوسائل حيادية عربيًا  مثل شبكة الجزيرة مباشر ، بالإضافة للذل العربي المعتاد على المستوى الرسمي الذي لم يتفق حتى الآن على صيغة مباشرة لمستقبل الضفة و غزة معًا ، لهذا يؤكد الإعلام العبري دائمًا أن هذا التماسك الفلسطيني يهدد القوات الإسرائيلية نفسها على لسان القناة ١٤ الداعمة لحكومة نتنياهو.
 
و بالتزامن مع تلك الإجراءات القمعية ، أصدرت عدة قوانين صارمة من شأنها تسهيل الاستطيان و سرقة الأراضي المحتلة بالأساس ، على رأسها قانون إلغاء الدولة الفلسطينية و كذلك عدم محاسبة المستوطنين المتطرفين بالقانون لتيسير و تسهيل اغتصاب الأراضي بشكل ممنهج ، و الإفراج عن السارقين و قتلة المقاومين ، لكن بعد ٧ أكتوبر تنامت تلك الاعتداءات الهمجية لتأكيد اعتقاد قديم مفاده أن لا حياة مع العرب و الفلسطينيين خاصة لإرهابهم الجسيم ، و كرههم الدفين للصهاينة الذين يريدون إبادتهم و محيهم من الوجود ، و كما تقول دانيلا فايس  زعيمة المستوطنين أن الطوفان “أثبت أن فلسطين لهم و أنهم سيعيدون السيطرة على غزة”.


 
علاوة على تلك المخططات ، فإن الصهاينة الحقيقين من أعضاء الكينسيت مثل الليكود يدافعون عن تلك المخططات البربرية ، و عمليًا يزيد من احتمالية الاحتقان بين الإسرائيليين أنفسهم لما يحتويه ذلك الانحياز و الاصطفاف تجاه مطالب على حساب الأولويات الحيوية التي تشغل الشارع، كملف الأسرى ووقف إطلاق النار ، لتنقلب لملفات تداعب اليمين المتطرف بشقيه الديني و الوطني حتى بلغ الهدف النهائي لهم ضم الضفة الغربية ، حتى لو جاء على حساب المواطن الصهيوني الذي يشعر بالغربة و الارتباك المتواصل الذي بلغ أشده ،و الذي أكدته المعارضة الإسرائيلية على لسان قائدها يائير لابيد .
 
 
تزامنت هذه السياسة الإحلالية مع قرارات ترامب بالعفو عن المستوطنين برفع العقوبات الدولية عنهم ، مضمنًا رسالة مفتوحة للقيام بحرية الاستطيان و تفريغ الضفة الغربية و ضمها الإجباري عبر قوننته الوقحة ، و ذلك يتفق مع خطة الجنرالات و الحسم و أخيرًا خطة التهجير التي وضعها دونالد ترامب.
 
 
الصخرة الصلبة و السقوط فوق الأسنان الحديدية:الفشل الحتمي
 
طالما دفنت الضفة الغربية مخططات إسرائيلية خبيثة عديدة تستهدف تصفية القضية،  منذ الانتداب البريطاني الذي حاول باستماتة مستمرة و إصرار شديد على تفريغ فلسطين، ففشلت أكثر من ٧خطط محبوكة و مدروسة بحكمة و علمية و دقة جعلت الضفة و فلسطين التاريخية جميعها عصية و حية دائمًا ، مما عكس بتعبير الدكتور رشيد الخالدي أستاذ التاريخ العربي الحديث في كتاب حرب المائة عام على فلسطين  “جذرية التهجير في العقلية الإسرائيلية”موافقًا بذلك العديد من الدراسات حول المفهوم المركزي الترانسفير أو الطرد القسري المباغت ، و هو ما لم ينجح إلا في النكبة عام ١٩٤٨ م.


 
يضيف الدكتور نور مصالحة على فكرة الجذرية في الترانسفير صفة الديمومة الخبيثة ، منذ النكبة الكبرى الأولى ١٩٤٨، و النكسة ١٩٦٧م مرورًا باتفاقيات السلام التي زادت نفوذ إسرائيل بكافة نسخها من كامب ديفيد لأوسلو ١٩٨٥، لكن اتفاقيات أبراهام نقلت إسرائيل لمرحلة إسرائيل الكبرى بشكلها المستمر حتى اللحظة عبر توسيع معاملاتها التجارية،  و الدبلوماسية،  لدرجة أن الدكتورة هبة جمال الدين حددتها باعتبارها نوعًا من “الاستعمار الجديد” ، هدفه تعجيز الدول العربية،  و تكبيلها الإهاني ، و اتفق معها الكاتب باراك ديفيد في كتابه اتفاقيات أبراهام :كيف أعادت تشكيل الشرق الأوسط منددًا بتلك الخطوة الخطيرة و إقدام الدول العربية عليها من الأساس.


 
بغرض النظر عن الفكرة الصهيونية ، فإنها فاشلة فشلًا ذريعًا ليس فقط لما تريده من إبادة و ما تنطوي عليه من وحشية خالصة ، بل بالعكس الوحشية الهوجاء تنتطوي على نهاية مدوية و أليمة، فكما قال الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله “كلما زاد عنف المستعمر قربت نهايته ” في إشارة لحقيقة ثابتة دلل عليها التاريخ الاستعماري كافة ، و خاصة الجزائر و المغرب العربي التي مات فيها قرابة ١٢٠مليون شخص حتى قال عنها المناضل الماركتيني فرانز فانون في كتابه “استعمار محتضر “أن العامل الأساسي و الحاسم في الحفاظ على استمرار الاستعمار هو الإذلال الدائم و الإبادة الجذرية لكل شيء ليقلب لقنبلة موقوتة لعمر الاستعمار.


 
في السياق الفلسطيني بالتحديد ، تدوم المقاومة بدوام الاحتلال لامتلاك رؤية واضحة متماسكة، مما يكسبها شريعة حية و جذرية دائمة ، فإذا اختفت حماس الحركة ظلت حماس قائمة بتاريخها ، و فعلها ، و لعل هذا ما جعل أستاذ الفكر و التاريخ العربي الحديث في جامعة كولومبيا جوزيف مسعد يصف المقاومة “بأصل المسألة الفلسطينية “في كتابه ديمومة القضية الفلسطينية، و لهذا يعد موت القادة في المقاومة غير مؤثر بل يشعل العمل أكثر و يعمقه عند الخذلان المخزي للصديق و خيانة القريب الواضحة المتمثلة في المواقف المتتالية للأنظمة العربية و السلطات المتعاقبة في فلسطين منذ أوسلو.
 


فالمقاومة في هذا الصدد أصل يتفرع منه منظومات كاملة من شأنها الحسم العسكري أو على الأقل الدفاع الشرعي و صد العدوان ، ممتدة عبر جميع المجالات على رأسها الأمني و العسكري بطريقة متناغمة مع بعضها البعض تحدم الصراع لصالح صاحب الحق، مؤكدًا سنة إلهية سجلها كتاب سيبراد فورت القاهرة ١٩٢٠ مفادها الإعداد المتقن و الحيوية النابضة رغم الحصاد المر عبر التاريخ في مراحله المختلفة و المتقلبة ، كاتبة لذلك آخر فصول المقاومة بالتحرر أو الاستشهاد كما يقول أبو عبيدة دائمًا ، محتضنة إياها الشعب في نسيج عضوي ملتحم تلحم الجلد بالعظام مرتبط كلا منهما الآخر دون انفصال للتحرير الكامل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى