د. أيمن صابر يكتب: ثقافة التعليم عن بعد وجامعة الجيل الثالث
اعتاد المجتمع أن يرسل أولاده إلى المدارس، والاستعداد لليوم الدراسي في الليل، من تجهيز الملابس وترتيب الكتب والكراسات؛ طبقا للجدول الدراسي، وتجهيز ما يلزم لليوم الدراسي، في ضوء الإمكانات المتاحة، وفي الصباح الباكر، تدب الحركة في البيت؛ من لحظة إضاءة الأنوار، وإيقاظ النيام، وصوت الراديو أو التليفزيون، وعدم التعامل معهم صباحا، حسب عادات الأسرة، وحسب ما تعود عليه أفراد الأسرة، وبعد الاستعداد والتأهب للمدرسة، والنزول إلى الشوارع، تشاهد منظرا جميلا مبهجا، رغم ما يشوبه من مناظر تبدو أحيانا متناقضة، فبعد الأولاد لم يدركوا بعد أن نهضوا من نومهم، ونزلوا إلى شوارعهم، ربما يستيقظون، وهم في الطريق أو في طابور الصباح، أو عند دخولهم إلى الفصل، وهناك منهم من يقاوم النوم، في أثناء الحصة الدراسية، وهذا المشهد الصباحي، رغم اختلافه، يبدو آية في النظام، والذي ينتهي في موعد محدد، يخرج فيه الطلاب إلى بيوتهم، في مشهد لا يقل جمالا عن المشهد الصباحي، رغم ما يصيبهم من التعب والإرهاق، في أثناء اليوم الدراسي، من شرح واستماع وأسئلة وواجبات وتكليفات ومهام، وهذا النظام يختلف بعض الاختلافات، عند الانتقال إلى المرحلة الجامعية؛ فقد بلغ الشباب مرحلة يعتمدون فيها على أنفسهم، ويحددون اختاراتهم، ولكن ذلك في إطار مشترك مع المراحل السابقة، في النزول إلى مكان الدراسة، معهد أو جامعة أو أكاديمية، والامتحانات والمراقبين البشريين، ويوم إعلان النتيجة، وما يتبعه من عادات وطقوس بعد النجاح، وما استقر من عادات قديمة كتوزيع الشربات، وكلمات فتحي قورة، غناء عبد الحليم حافظ 1962 “وحياة قلبي وأفراحه… ما لقيت فرحان بالدنيا زي الفرحان بنجاحه…الناجح يرفع إيده…”.
هذا هو النظام الدراسي المعهود بتفاصيله المختلفة، ثم بدأنا نسمع على استحياء مصطلح “التعليم عن بعد”، بين رافض ومنكر له، وهم الأغلبية، وبين متقبل للفكرة ورافض للتنفيذ وغير معترف بالشهادة التي يكتب فيها أنه حصل على شهادة مكتوب فيها أنه تعليم عن بعد، وهو ما يذكرنا بشهادة التعليم المفتوح في بداية التجربة، وبين متقبل للفكرة والتنفيذ، وهم قلة قليلة، ربما لأسباب الصورة الذهنية الفعلية للتعليم عن بعد؛ ومن أبرز ما يعوق تنفيذ آلية التعليم عن بعد؛ في ضوء ما نراه في مجتمعنا: عدم الاعتراف بالتعليم عن بعد رسميا، في بعض الدول، وضعف شبكات الإنترنت، في بعض الأماكن، والتكلفة العالية…إلخ
وإذا ما نظرنا إلى هذا المفهوم بالإنجليزية Distance Education إحدى طرق التعليم الحديثة، يعتمد على وجود المتعلم في مكان، ومصدر التعليم (المعلم/ الدارسين)، في مكان آخر، وهو ما يعني عدم وجود حرم مؤسسي تعليمي محدد، وإنما تتم العملية التعليمية عبر وسائل التكنولوجيا، أي دون الحاجة إلى وجود جسدي، وهو ما قد يبدو أنه عامل من عوامل الجذب لمن لا يستطيعون الالتزام بالحضور والذهاب إلى مؤسسة تعليمية، ومن ثم فهو يوفر المرونة في الوقت والمكان والوسيلة المناسبة للتعليم، وعدم التقيد بنظام معين محدد، أيا كانت الأسباب، وقد ظهر -قديما- في جامعة لندن التي كانت تقدم شهادات عن بعد، بعد إعدادها برنامجها الخارجي 1858م، ولست معنيا بنشأته أو أهدافه ونتائجه، إنما معني بالبحث في ثقافة التعليم عن بعد، بين أفراد المجتمع، بين القبول والرفض، في ثقافتنا المصرية.
وقد فرضت جائحة كوروناCOVID-19 العالمية في 2020 إغلاق المدارس والجامعات، وحبس فيها العالم أنفاسه؛ خوفا مما هو قادم؛ ومن ثم التفكير في منظومة التعليم عن بعد، وتنفيذها والاستفادة منها؛ خوفا من انتشار الأمراض، وحفاظا على صحة الأفراد والمجتمع كله، فضمان السلامة الصحية للمتعلمين مقدم على البيئة التعليمية نفسها، مستغلين في ذلك ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا.
وإذا ما نظرنا إلى أفكار باولو فيريري (1921- 1997) نجده يفرق بين نوعين من التعليم: التعليم البنكي، والتعليم الحواري، ففي التعليم البنكي، يقوم المعلم بإيداع المعلومات في الخزائن لدى الطلاب، وهو ما انتقده بشده، ومن ثم انتقد التعليم المدرسي الروتيني (البنكي)؛ لأنه يقوم على المعلم في كل شيء، فهو الذي يتكلم ويختار ويفرض ويدرب؛ أي إنه محور العملية التعليمية والطلاب يدورون في فلكه بالتبعية، أما في التعليم الحواري فيعتمد على علاقة الحوار المستمر بين المعلم والمتعلم؛ بهدف التبادل، وتنمية الوعي، والإقناع، وترسيخ الأفكار بعد تلقيها بهذه الصورة؛ ومن ثم فلا تقوم العملية التعليمية على المعلم فقط.
واليوم بدأنا سمع عن مصطلح “جامعة الجيل الثالث “The Third Generation University، وقد بدأ يتردد منذ عدة أعوام، أن الجامعات بشكلها الحالي التقليدي إلى زوال، وسيحل محلها النموذج الجديد المقترح، الذي تحدث عنه يوهان ويسيما في كتابه “الطريق أو الاتجاه جامعة الجيل الثالث”، وفي ضوء ذلك يفهم أن هناك جيلين سابقين للجامعات؛ الأول: الجيل الأول؛ والذي ظهر في العصور الوسطى، وفيه الاهتمام الطبيعي الأولي لنقل المعرفة واكتشاف ما يمكن اكتشافه من علوم ومعارف، والثاني: وهو التطور الثاني الذي يهدف إلى إدخال البحث إلى التدريس، وهو ما نتج عنه إنشاء كليات متخصصة، يقوم عليها متخصصون، يقومون بتخريج متخصصين في هذه المجالات، وتأتي المرحلة الثالثة، وهي الريادة واستثمار ما وصلنا إليه في المرحلة السابقة، بعد المعرفة والبحث العلمي وإنتاج المتخصصين، وبذا ينتقل الشكل التقليدي من مجرد مكان بحثي ومعرفي إلى مكان استثماري ممول بهدف الوصول إلى جامعة الجيل الثالث.
وإذا كان هذا هو الفكر الحالي في الجامعات العالمية، فأين نحن من ذلك؟ وهل نحن جاهزون للانتقال إلى هذه المرحلة؟ وما المعوقات التي يمكننا أن نواجهها كي نحقق ذلك؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات يحتاج الأمر إلى دراسة الأمر الراهن، ووضع خطة شاملة، تشترك فيها جميع الجامعات الحكومية والخاصة، وكل جامعة تطرح رؤيتها المستقبلية، وتبدأ مرحلة المنافسة بين الجامعات، في مدة زمنية محددة، والتفكير في كيفية تعديل فكرة التعليم الجامعي المجاني، ولا أقصد بإلغاء المجانية أو دفع المبالغ الرمزية؛ فلولا هذه المجانية المتعارف عليها ما وصل أغلب الأفراد إلى الشهادات الجامعية، من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ولكن المقصود هو ضبط المنظومة، في إطار من يذهب إلى الجامعة بالمجانية ويحصل على الشهادة؟ خاصة أن الجامعات -في ظل الأعداد الحالية- لن تتمكن من تخريج طلاب مؤهلين ومتخصصين وقادرين على مواجهة تحديات المستقبل، فلم يعد الهدف هو مجرد الحصول على شهادة جامعية، وهذا ما نراه -أيضا- في الاهتمام الحالي بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة -بصرف النظر عن المؤهل- ونشر فكر ريادة الأعمال، نظريًّا وعمليًّا، والانتقال إلى الناحية العملية التطبيقية؛ بهدف زيادة الإبداع والابتكار بين أفراد المجتمع، ونشر ثقافة ريادة الأعمال، وتوفير المناخ العلمي لتحقيق ذلك.