د.ايمن صابر سعيد يكتب: أدب الخيال العلمي بين الحقيقة والإبداع

أدب الخيال العلمي بين الحقيقة والإبداع
تعود فكرة الاستغراق والتأمل والبحث في أدب الخيال العلمي، عندي، إلى سنوات ماضية بعيدة، وبدأت بعدة أسئلة ألحت على ذهني، وهي: هل لدينا أدب خيال علمي بالفعل؟ وهل الخيال العلمي عربي النشأة أم غربي النشأة؟ وهل الكاتب ينطلق في كتابته من أنه أديب متخصص في الأجناس الأدبية، أم إنه باحث علمي متخصص، ويريد أن يقدم هذه الأفكار بطريقة أدبية؟ حيث إن هناك من يراه لونا أدبيا يتناول قضايا العلم والتكنولوجيا بأدواتها الحديثة أو المستجدة في الحاضر والمستقبل، أو في عوالم بديلة، حقيقية كانت أو متخيلة، ولكن ليس الأمر مبني على الفانتازيا، بل لا بد أن يستند على خيال علمي منطقي ومبادئ علمية، معلومة أو مجهولة، ومن ثم فهو يجمع بين الأدب الإبداعي والتفكير العلمي أو التفكير العلمي والإبداع الأدبي بلا فارق في الابتداء بأيهما، وإن كنت أميل إلى الانطلاق من التفكير العلمي ثم الانطلاق إلى الصياغة الأدبية.
يمتاز إذن أدب الخيال العلمي بالاعتماد على الفرضيات العلمية أو التكنولوجيا، والأحداث التي تدور في الحياة كاستكشاف عوالم الفضاء مثلا، وكذلك القضايا المرتبطة بالقضايا الفلسفية والأخلاقية مثل الذكاء الاصطناعي، والرمزية والتنبؤ لنقد الواقع أو لتوقع أحداث مصيرية مبنية على مبادئ علمية، ومن ثم تتحقق المتعة الناتجة عن الجمع بين الاستكشاف والمعرفة، واستثارة الذهن طوال الوقت من خلال طرح أسئلة علمية وفكرية مستمرة، وأهمها، وماذا بعد؟ فمع كل كشف جديد ومعرفة جديدة، تبدأ مرحلة جديدة من المتعة؛ ولذا فهو أدب مفتوح على عوالم لانهائية من الإبداع والتفكير، وليس الهدف منع الوصول فحسب، بل السعي الدائم الدؤوب للاستكشاف والمتعة، وهذا أشبه بألف ليلة وليلة، فمع كل حكاية تنتهي، تبدأ حكاية جديدة.
ولذا فموضوعات أدب الخيال العلمي أيضًا لانهائية، ولا يمكن حصرها، ولكن يمكننا الحديث عن الفلك الذي تدور فيه، والقضايا التي تتناولها: كغزو الفضاء واستيطان الكواكب الأخرى، والكائنات الفضائية، والروبوتات والذكاء الاصطناعي، والسفر عبر الزمن لاستكشاف ما لم يتم اكتشافه، ونهاية العالم التي خرجت في أعمال مجسدة، والتكنولوجيا بوجه عام وعلاقتها بالإنسان.
والنتائج المتوقعة من خلال قراءة أدب الخيال العلمي متعددة؛ فقد تكون في البداية (تثقيفية) لربط الإنسان بالتكنولوجيا؛ أو (تنبؤية) لاستشراف المستقبل للتعامل مع المخاطر التي يتوقعها العلم ويحاول منع حدوثها؛ أو (نقدية) بما لا يملك القائل الحل ولكن يوجه إليه، ويشير إلى كل السلبيات، سواء بالتصريح أو بالرمز؛ أو (إبداعية) من خلال إطلاق العنان للخيال ومحاولة الوصول إلى إمكانات غير معلومة أو يحدها حد، فالخيال في حد ذاتية لانهاية له.
وأما فكرة السؤال عن النشأة، فهو سؤال يفتح باب أقرب ما يكون إلى التعصب غالبا، فكل فريق سيدلل على وجوده لديهم قبل الآخرين، وسنقف بين إجابتين عربي النشأة أو غربي النشأة، وأنه ظهر قديما عند العرب، والدليل كتاب كذا وكذا أو قصة كذا وكذا، وهاك من سينفي وجوده عند العرب، وأنه غرب النشأة وظهر على يد فلان وفلان، وهو أمر يحتاج أبحاث مستفيضة خاصة إنه سيفتح بابا واسعا في العودة إلى تعريف أدب الخيال العملي، وموضوعاته، والاستقرار على أمور محددة ثم عرض النتاج العربي أو الغربي على ما استقر عليه.
وإذا أردنا أن نحدد مجموعة من الأسماء التي لمعت في أدب الخيال العلمي من المحدثين، سنذكر على سبيل المثال من الغرب: جول فيرن “عشرون ألف فرسخ تحت البحر- ورحلة إلى مركز الأرض”، وهربرت جورج ويلز “آلة الزمن، وحرب العوالم”، وإسحاق أسيموف “مؤسسة، وأنا الروبوت”، وكذلك أورسولا لو جوين، وفيليب ديك، وأما من الشخصيات العربية، فمثلا نبيل فاروق”ملف المستقبل”، وأحمد خالد توفيق “يوتوبيا”، نهاد شريف “قاهر الزمن- رجال من كوكب آخر”، ومصطفى محمود، ويوسف عز الدين عيسى، ومحمود سالم، ومصطفى محمود…إلخ
وقد توقفت قبل عامين أو ثلاثة أمام كتاب مترجم من الإنجليزية بعنوان: “الخيال العلمي العربي” تأليف: يان كامبل، وأعدت على نفسي السؤال المهم: هل لدينا خيال علمي عربي حقًّا؟ والكتاب مرجع مهم في أدب الخيال العربي في القرن العشرين، وهو مقدم لقراء لا يعرفون اللغة العربية، وكذلك للقراء للمتخصصين في الأدب العربي، وهو يقدم تأصيلا معرفيا لدارسي الخيال العلمي والأدب العربي، ويقدم نصوصا في هذا المجال، ويلقي الضوء على شخصيات ربما لا نعلم عنها كثيرا، مثل أحمد عبد السلام البقالي، وطالب عمران، وطيبة أحمد الإبراهيمي. وهناك كتاب آخرون كثر، لم يتعرض لهم المؤلف أو ربما لا يعرفهم، فمثلا لم يذكر الدكتور رؤوف وصفي، صاحب الجهود المميزة والكتب المترجمة في الخيال العلمي، وتبسيط العلوم، وكذلك الكتاب المصريين الذين سبق ذكرهم.
ويمكننا الإفادة من أدب الخيال العلمي إفادة كبيرة في فتج آفاق جديدة للفكر والإبداع خارج دائرة الواقع المعيش، وكذلك اقتحام عوالم جديدة متخيلة، وتنفيذ اختراعات مستقبلية غير تقليدية، تنمية التفكير المنطقي والاستقرائي من خلال ربط كل الأحداث والتنبوءات بالتفكير العلمي، فهو منهج حياة، تعزيز ميزة حب الاستطلاع العلمي والبحث فيما وراء الطبيعة، والتعامل مع الذكاء الاصطناعي، وفتح باب التأمل في القيم الإنسانية والأخلاق في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي، وتطوير علاقة الإنسان بالآلة،تقديم المنهاج الدراسية بطريقة ممتعة تجمع بين الفكرة والمتعة، تطوير المصطلحات وإثراء اللغة العربية بكل ما هو جديد، بناء هوية ثقافية علمية مواكبة للكل الأحداث والتطورات، والأهم من كل هذا إعداد إنسان قادر على مواجهة أعباء الحياة متسلحا بكل الأدوات العلمية والفكرية، للإبداع والتفكير خارج الصندوق، فكل الاختراعات بدأت بأفكار بسيطة، ووقتها كانت تبدور معقدة أو ضربا من المستحيل، فمن كلن يصدق في القرن الماضي أو يتخيل نقل الصوت والصورة، سواء عن طريق التليفون أو التليفزيون أو فكرة الإنترنت، وفكرة أن العالم صار قرية صغيرة، ومع الوقت أصبحت هذه الأمور وغيرها أشياء مسلما بها وواقعية، وانتفت فكرة الخيال عن كل ما يبدأ بفكرة، فلم لا نفكر ونحلم ونكتب ونبدع، من أجل مستقبل أفضل وخيال أوسع وفكر علمي متطور، وصولا إلى مجتمع يمزج المعرفة العلمية بالرؤية الإنسانية. فهل نفعل؟ّ