فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب: جدليات النقد الثقافي وتحديات الوعي المعاصر

جدليات النقد الثقافي وتحديات الوعي المعاصر

يُعَدُّ النقد الثقافي واحدًا من أهم التغيرات والتحولات المعرفية التي شهدها القرن الماضي؛ إذ تجاوز حدود النقد الأدبي التقليدي المتعارف عليه بين المتخصصين، واتجه نحو مقاربة النصوص والخطابات بوصفها تجليات للثقافة، وليست مجرد إبداعات جمالية أو لغوية- كما كان ينظر إليها في الدراسات السابقة؛ ومن ثم فإن النقد الثقافي لا يهتم بالنص الأدبي لذاته أو في ذاته فحسب، بل يضعه ضمن شبكة علاقات عميقة وممتدة؛ مثل العلاقلات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والمعرفية التي أنتجت النص نفسه. ويسمح بقراءة النصوص في ضوء السلطة والمعنى والهُوية، وصولا للكشف عن البنى العميقة التي تشكّل الوعي الجمعي.

ولذا يقوم النقد الثقافي على افتراض مهم، وهو أن الأدب، والفن، واللغة، ليست كيانات معزولة عن العالم أو جزر منعزلة، وإنما ممارسات ثقافية تعكس إنتاج القيم والسلطات وتفككها وتعيدها من جديد، ومن ثم فإن النصوص ليست محايدة أو قائمة بذاتها غير متصلة بغيرها، بل هي في الحقيقة تحمل في داخلها تمثيلات للطبقة، والجنس، والعرق، والهوية، والدين، والسلطة.

وقد برز مصطلح النقد الثقافي بقوة -في البداية- في الدراسات الغربية مع منظّرين ميشيل فوكو: ركّز على علاقة السلطة بالمعرفة، وكيف تعمل الخطابات على تشكيل الوعي وضبط المجتمع؛ مثل: ريموند ويليامز: من رواد الدراسات الثقافية البريطانية، درس علاقة الثقافة بالبنى الاجتماعية والاقتصادية؛ وإدوارد سعيد: عبر كتابه الاستشراق، قدّم نموذجاً رائداً في ربط النصوص الأدبية بالخطاب الاستعماري؛ وتيري إيجلتون: قدّم قراءات نقدية تربط الأدب بالأيديولوجيا والسياقات التاريخية؛ وستيوارت هول: أسهم في تطوير حقل الدراسات الثقافية، خاصة في قضايا الهوية والعرق والإعلام؛ وغيرهم؛ حيث ربطوا النصوص الأدبية بالخطابات الاستعمارية، والهيمنة الثقافية، وآليات السلطة، والذين سار خلفهم كل من يكتب في تحليل الأعمال الأدبية ثقافيا؛ سواء من الغرب أو العرب المحدثين، وإن لم يصرحوا بذلك، لكن اعتمادهم على ما استخدموه من مصطلحات دليل على صحة ما ذهبنا إليه.

وقد اعتمد المنظرون الغربيون بالنقد الثقافي في دراساتهم في تحقيق أهداف معينة مثل: (تفكيك الهيمنة) حيث يسعى النقد الثقافي إلى كشف الأنساق المضمرة التي تكرّس التراتب الاجتماعي أو التحيّزات الثقافية؛ و(إعادة قراءة التراث) إذ إنه لا ينظر إلى النصوص التراثية كقوالب ثابتة، بل بوصفها منتجات تاريخية ينبغي فحصها في ضوء سياقاتها؛ و(توسيع دائرة القراءة) فلم يعد الاهتمام مقصورا على النص الأدبي الكلاسيكي، بل امتد ليشمل مجالات أخرى كالإعلام، والسينما، والخطاب السياسي، والفضاء الرقمي؛ و(بناء وعي نقدي) يهدف إلى مساعدة الأفراد في إدراك الكيفية التي تتشكّل بها أذواقهم وقيمهم ومعتقداتهم من خلال الخطابات الشائعة.

تحديات النقد الثقافي

ولم يكن الأمر في النقد الثقافي يسيرا أو بسيطا، كما يظن بعض الدارسين؛ فيسارعون بتحليل أعمالهم تحت اسم “دراسة نقدية ثقافية”؛ فعلى الرغم من الأهمية البالغة لهذا التجديد الذي طرأ على الساحة الغربية أو العربية- على حد سواء، فإنه يواجه عدة تحديات معرفية ومنهجية يمكننا أن نتوقف عندها تتمثل فيما يلي:

أولا: التحدي المنهجي:

فالنقد الثقافي يفتقر إلى أداة منهجية موحّدة. فهو يستعير من حقول متعددة ومتنوعة، وقد تبدو مختلفة ولا يجمعها رابط واحد مثل السوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، واللسانيات، ما يجعله مفتوحاً وثريًّا، وهو ما يجعله عُرضة للخلط بين التخصصات المختلفة نتيجة التداخل بين المعارف البينية. وهو ما يجعنا أمام منهج غير واضح المعالم أحيانا، وليس لديةه صرامة علمية محددة ذات حدود فاصلة.

ثانيا: التحدي المعرفي:

ينطلق النقد الثقافي من خلفية معرفية غربية في معظمها نتيجة النشأة، مثل نظريات فوكو في السلطة والمعرفة أو دراسات ما بعد الاستعمار. ومن ثم -ولا غربة في ذلك- وأن يكون السياق العربي تابعا مستوردا لهذه المفاهيم دون إعادة تأويلها بما يتناسب والخصوصية الثقافية العربية؛ فيتحوّل النقد الثقافي -دون أن ندري- إلى تكرار لأدوات جاهزة وقوالب معدة سلفًا من بيئات مختلفة، ودون ممارسة إبداعية نابعة من الواقع المحلي المعيش.

ثالثا: التحدي المؤسسي:

لا يزال النقد الثقافي يعاني من ضعف الاعتراف المؤسسي في بعض الجامعات العربية أو أقسام اللغة العربية؛ والدليل على ذلك هيمنة الدراسات الأدبية التقليدية التي تركز على البلاغة والجماليات والتلقي…إلخ. وينصرف عنه الباحثون نتيجة صعوبة دراسة النقد الثقافي بوصفه مجالا مستقلا كالدراسات الموجودة فعليا في البحث الأكاديمي، وربما يكون ذلك مرده إلى أن هذا الاتجاه -من وجهة نظرهم- “طارئ وسيختفي”.

رابعا: التحدي الأيديولوجي:

من الأدوات الأساسية في النقد الثقافي أن يكون منحازًا انحيازا كليا ضد الهيمنة والسلطة، غير أنّ هذا الانحياز المعلن عنه قد يتحول -أحيانًا وربما نتيجة التعصب الكامن في النفوس نتجة عوامل كثيرة- إلى خطاب أيديولوجي مضاد، يفتقر إلى التوازن والموضوعية والجدية العلمية التي تضع كل شيء في مكانه الصحيح دون ميل أو تعصب أو هوى. ومن ثم السؤال: كيف فالناقد الثقافي مطالب بالمحافظة على وضع محددات نقدية آمنة وواضحة؛ خوفا ومن الانجراف والسقوط في التعميم أو الخطاب الشعبوي؛ فينشأ لون جديد ذو هيمنة وسلطة مضادة.

خامسا: التحدي الرقمي:

مع بزوغ الثورة التكنولوجية والرقمية والذكاء الاصطناعي، ظهرت نصوص وخطابات جديدة على منصات التواصل الاجتماعي، تحمل أنماطاً مختلفة من الهيمنة والسلطة والتأثير الذي لا يمكننا تجاهله. والنقد الثقافي بوصفه اتجاها جديد أم أحدث الاتجاهات على الساحة مطالب أيضا -الآن- بتطوير أدواته لمواكبة هذا التقدم التقني الجديد الواسع، واستيعاب هذه “الثقافة الرقمية” المتسارعة بوصفها جزءا رئيسا وأصيلا في موضوع النقد الثقافي.

من النص إلى النسق:

النسق في النقد الثقافي هو البنية العميقة أو النظام غير المرئي الكامن خلف النصوص والخطابات، والذي يوجّه المعنى ويعيد إنتاج القيم الاجتماعية والثقافية، ومن ثم فلم يعد النص مجرد كلمات أو جمالية لغوية، بل هو واجهة أو سطح ظاهري، بينما النسق هو البحث في المنظومة المضمرة التي تعكس المعتقدات، والسلطات، والأيديولوجيات داخل المجتمع؛ أي أن النسق هو الكشف عما وراء النص؛ ولذا تتعدد الأنساق ويعاد إنتاجها، فقد يكون ما وراء النص هو (النسق الذكوري – النسق القبلي- النسق السلطوي- النسق الديني/الطائفي…إلخ).

وأما عن علاقة النسق بالنص، فتتمثل في أن: النص تجلٍّ للنسق، النسق يحكم النص، النص واجهة (القشرة السطحية) والنسق محرك (الجذور الممتدة وما يتصل بها)، الناقد الثقافي يكشف النسق، ومن ثم لا يكتفي بقراءة ظاهر النص، بل يتوغل ليكشف عن “النسق الثقافي” الذي يعيد إنتاج القيم، فمثلا إذا طالعنا قصيدة شعرية موضوعها الغزل العفيف، والوصف المثالي لصفات امرأة بالخضوع والضغف والجمال، فيكون النص ببساطة الغزل والوصف الجمالي، أما النسق فيكشف عن تكريس صورة المرأة بوصفها موضوعًا للجمال والخضوع والضعف، وإقصاؤها كفاعل مستقل. صورة أخرى للتوضيح بين النص والنسق، إذا طالعنا قصيدة شعرية في مدح الحاكم، يكون النص بوضوح شديد في المدح والتغني بصفات الحاكم رغبة في تحقيق هدف معين، أما النسق الكامن وراء القصيدة ربما يكون إعادة إنتاج ثقافة الطاعة والولاء للسلطة عبر هذه القصيدة؛ ولذا يمكننا أن نقول إن النص يُنتَج داخل النسق، والنسق يعمل خلف النص.

وأخيرا وليس آخرا، فالنقد الثقافي -بوجه عام- ليس مجرد أداة أكاديمية جديدة معرفية مستحدثة، وإن كانت وافدة، بل هو موقف معرفي يسعى إلى مساءلة النصوص والثقافات والسلطات، في ضوء معطيات محددة. ورغم كثرة التحديات المتعددة التي يواجهها النقد الثقافي، فإن أهميته تكمن في قدرته على تجاوز الحدود التقليدية للنقد الأدبي ومدارسه المتعارف عليها، وفي فتح آفاق واسعة لفهم الإنسان وثقافته في عالم معقد ومتغير ومتسارع لبناء مجتمع واع وقادر على مواجهة التحديات والمستجدات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى