د. أيمن صابر يكتب: ليس دفاعا عن طه حسين (3)

وهنا تبدأ رحلة جديدة في التحقيقات ومواجهة طه حسين بمحتوى الشكوى، بعد عودته من السفر، وبداية التحقيق في تاريخ 19 أكتوبر 1926، وتم استجوابه وأدلى بأقواله أمام رئيس نيابة مصر-في ذلك الوقت- محمد نور، ووضح قصده ومنهجه العلمي، وما قصده فيما يتعلق بالاتهامات، وحقق دفاعه، وهو حقه الأصيل في التحقيقات، ونفى كل ما نسب إليه، فأما الاتهام الأول، ويتلخص في أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل؛ حيث ذكر في ص ٣٦ من كتابه: “للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي؛ فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثت بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة أخرى” إلى آخر ما جاء في هذا الصدد.
وبذلك نكون أمام اتهامات محددة من الشاكي، ودفاع طه حسين عن نفسه، في ضوء الاتهام الأول، وفي الحقيقة نحن أمام رئيس نيابة غير عادي لقضية غير عادية، وهو ما سيظهر لنا من خلال ما جاء في تعليقاته على النقطة الأولى، والتي طال نقاشها بينهما، وقد أراد رئيس النيابة بداية تأكيد أن العبارات الواردة في الشكوى فيما يتعلق بأنه طعن في الدين الإسلامي، لا يجوز انتزاعها من سياقها، أو فصلها عن موضوعها؛ وهو ما يعني أن النيابة تؤكد على أهمية فهم السياق الوارد في الكتاب، بقصد معين ومسؤولية محددة يقدرها المؤلف؛ لذا فالعبارات ستناقش في موضوعها وفي سياقها دون الانحراف بها إلى سياق آخر، فالكتاب موضوعه أدبي وليس دينيا؛ فلا داعي لتديين الموضوع الأدبي والبحث الأدبي؛ وهذا وربي درس قيم جدًّا ومنهج علمي لا يصدر عن رجل قانون فحسب، وإنما يصدر عن عالم متخصص في تدريس أدوات البحث العلمي المتعارف عليها، في جميع المناهج الخاصة بكيفية إعداد البحث، وهو يؤكد أننا أمام رجل قانون من طراز فريد.
وبعد أن عرض طه حسين وجهة نظره، في النقطة الأولى، رأى رئيس النيابة أن المؤلف أمام أمرين لا ثالث لهما؛ أحدهما أنه دخل إلى قضية بحثية لا فائدة فيها، وتطرق في بحثه إلى مسألة في غاية الخطورة صدم بها الأمة الإسلامية في أحد ثوابتها، وأساء إلى نفسه بلا جدوى تذكر، ولم يوفق في الوصول إلى الإجابة فحسب، بل إنه قد خرج من الموضوع الرئيس للبحث؛ ومن ثم عجز عن الإجابة؛ وأعلى من فكرة، الشك والتشكيك دون مبرر؛ والأمر الثاني هو أنه كان سيئ النية، قاصدا التشكيك في مسائل أخرى أكثر خطورة.
وعن محاولة طه حسين التدليل على صحة رأيه في أن الشعر الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، كان عليه أن يناقش ثلاثة أمور-حددها رئيس النيابة- ثم يقارن بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي قيل فيه: الشعر الذي يريد أن يبرهن على أنه منسوب بغير حق للجاهلية، والوقت الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، واللغة التي كانت موجودة فعلًا في ذلك الوقت.
كما أن اعتماده على مرويتين للتدليل على الاختلافات بين لغة حمير ولغة عدنان، وهو يقصد بلغة عدنان التي كانت موجودة وقت نزول القرآن؛ لأنه يرى من الاحتياط العلمي أن يقرر أن أقدم نص عربي للغة العدنانية هو القرآن، ففيهما نظر، فالأول: ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول، “ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا”؛ إذ إن هناك قولا آخر كان يجب أن يستند إليه، وهو ما جاء في طبقات الشعراء، أخبرني يونس عن أبي عمرو قال: “العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقا جرهم”؛ فالراوي واحد والمروي عنه واحد، فكان عليه أن يثبت القول الثاني أيضا، ولأنه فسره بغير ما أراده أبو عمرو بن العلاء، ربما لحاجة في نفسه، فيتعين إسقاط هذا الدليل، وعدم الاعتماد عليه.
والثاني قوله: “ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضًا”؛ فهو لم يفصل القول فيه؛ ولذا رأى أنه في حاجة للإيضاح، فوجه إليه الاستفسارات في صورة أسئلة، وتلقى الإجابات، ومن الجدير بالذكر-نقلا عما نشره رئيس النيابة- أن نتابع هذا الحوار الراقي العلمي بينهما:
س- هل يمكن لحضرتكم، الآن، تعريف اللغة الجاهلية الفصحى وعلى لغة حمير وبيان الفرق بين لغة حمير ولغة عدنان، ومدى هذا الفرق، وذكر بعض أمثلة تساعدنا على فهم ذلك؟
ج- قلت إن اللغة الجاهلية في رأيي ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الأقل؛ أولهما لغة حمير، وهذه اللغة قد درست ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم، ولم يكن شيء من هذا معروف قبل الاكتشافات الحديثة، وهي كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى التي سألتم عنها مخالفة جوهرية، في اللفظ والنحو وقواعد الصرف، وهي إلى اللغة الحبشية القديمة أقرب منها إلى اللغة العربية الفصحى، وليس من شك في أن الصلة بينها وبين لغة القرآن والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية. فأما إيراد النصوص والأمثلة، فيحتاج إلى ذاكرة لم يهبها الله لي، ولا بد من الرجوع إلى الكتب المدونة في هذه اللغة.
س- هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا هذه المراجع أو تقدموها لنا؟
ج- أنا لا أقدم شيئًا.
س- هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدأ وجودها إن أمكن؟
ج- مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده، ولكن لا شك في أنها كانت معروفة تكتب قبل القرن الأول للمسيح، وظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية قد محيا هذه اللغة شيئًا فشيئًا، كما محيا غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية وأقرا مكانها لغة القرآن.
س- هل يمكن لحضرتكم أيضًا أن تذكروا لنا مبدأ اللغة العدنانية، ولو بوجه التقريب؟
ج- ليس من السهل معرفة مبدأ اللغة العدنانية، وكل ما يمكن أن يقال بطريقة عملية، هو أن لدينا نقوشًا قليلة جدًا يرجع عهدها إلى القرن الرابع للميلاد، وهذه النقوش قريبة من اللغة العدنانية، ولكن المستشرقين يرون أنها لهجة قبطية، وإذن فقد يكون من احتياط العلم أن نرى أقدم نص عربي يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية إلى الآن إنما هو القرآن حتى نستكشف نقوشًا أظهر وأكثر مما لدينا.
س- هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة، سواء كانت اللغة الحميرية أو اللغة العدنانية، كانت باقية على حالها من وقت نشأتها أو حصل فيها تغيير بسبب تمادي الزمن والاختلاط؟
ج- ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونًا دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير….
لقد أشرنا إلى التغيير الذي أحدثه المؤلف فيما روي عن أبي عمرو، حيث حذف من روايته. “ولا عربيتهم بعربيتنا”، ووضع محلها “ولا لغتهم بلغتنا”، وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير، فهذا هو مأربه، أن الأستاذ حرف في الرواية عمدًا ليصل إلى تقرير هذه النتيجة.(وللموضوع بقية)