د. أيمن صابر سعيد يكتب: المفاتيح السرية في أدب نجيب محفوظ

المفاتيح السرية في أدب نجيب محفوظ
إن أغلب الدراسات والأبحاث الأدبية والنقدية المنشورة عن الكتاب الكبار قد قتلت بحثًا، من وجهة نظر عدد كبير من المتخصصين، وهناك من يخالف هذه الرؤية ويقبل تعددية الأبحاث والدراسات، وإن كانت في الموضوع نفسه، ولكن حين تنشر دراسة بحثية في أدب نجيب محفوظ -على سبيل المثال- في سنة 2024، بعنوان: “الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ” للمؤلف علي قطب، ثم يحصد مبدعها جائزة الدولة التشجيعية في تخصص النقد، فضلا عن إشادة لجنة التحكيم بالكتاب؛ فلا بد من وقفة تأملية طويلة للكشف عن أهم ما تميز به هذا الكتاب.
بداية يهدف الكتاب إلى الكشف عن دور الغناء والموسيقى والشعر في أعمال نجيب محفوظ، بعيدًا عن النظر إليها بوصفها زينة لفظية سطحية أو حلية زخرفية صوتية، بل بوصفها أدوات سردية عميقة تُسهم في تركيب العالم الروائي الخفي أو السري في أدب نجيب محفوظ، ومكونا رئيسيا في تشكيل أعماله وبنيتها، ومن ثم فهي توجه بنية النص الروائي، فـ”من يدخل بيت نجيب محفوظ سيستمع إلى صوت القاهرة، فإن الأغنيات والأنغام والأشعار لون واضح في نسيج السرد عند الأديب الحافظ لتاريخ تكوينه، ولأنه يمتلك من الوعي ما يوفر له أن يصل خطوط حياته ببوصلة عاصمته العريقة، فإن قراءة سرد محفوظ تفتح صفحة لتسجيل تاريخ الفن في مصر…”.
يعتمد المؤلف على قراءة نقدية دقيقة للتأكيد على أن الغناء يمثل البوصلة التي توجه وتسوق البنية السردية في أعمال نجيب محفوظ، ويجمع بذكاء شديد ووعي يقظ بين الأحبة والغرباء في مسيرة تشكيل وتأمل فلسفة الحياة الروائية في أعماله، ومن ثم اهتمت الدراسة بـ”الغناء والشعر في الأعمال الإبداعية الكاملة لنجيب محفوظ منذ الثلاثية الفرعونية (عبث الأقدار- رادوبيس- كفاح طيبة) إلى أصداء السير الذاتية وأحلام فترة النقاهة”، في صورة ثلاثة محاور محددة هي:
المحور الأول: يتعلق بفلسفة الفن، وهو أمر طبيعي نتيجة تخصص أديبنا في هذا التخصص الدراسي، ومن ثم فقد تأثر بأقوال الفلاسفة قديما وحديثا أمثال أفلاطون، وبرجسون وغيرهما كثير، كاشفا عن الناحية الجمالية الروحية التي تربط بين الفلسفة والفن المتمثلة في الشعر والغناء والقصص. والمحور الثاني: الكشف عن شبكة العلاقات التي تربط الغناء بالبنية الدرامية، ودور الغناء والشعر في إدارة الحركة السردية وتأثيرها النفسي والاجتماعي في تكوين الشخصيات وخبراتها الحياتية. والمحور الثالث: الناحية اللغوية في أدب نجيب محفوظ، فهي التي يستعملها في التعبير عن فكره المتجدد وصوته الإنساني وضميره، وموقفه من قضايا عصره.
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول رئيسة، بالإضافة إلى مقدمة ومعجم يضم الأغاني، والأشعار، والأناشيد المستلهمة من أدب مصر القديمة، وغزليات حافظ الشيرازي في حكايات حارتنا والحرافيش، وتفصيل ذلك:
أولا: الأغاني ومحاورالموضوع السردي
يستعرض كيف وظف نجيب محفوظ الغناء والشعر بوصفهما محاور تؤثر في بنية النص وتكشف عن قضايا حضارية وفكرية، وكيف عبر الهوية المصرية العربية الشرقية وتفاعلها وتواصلها مع الروح البشرية الإنسانية؛ فهي على سبيل علامات إحالة ووحدات إنتاح، وعمل جمعي فكري شعبي، وصوت جيل بقضاياه ومشكلاته وأحلامه.
ثانيا: الصوت الغنائي والشبكة الدرامية
يبحث في كيفية دمج الصوت الغنائي ضمن تسلسل الأحداث وتصاعد التوتر، بوصفه جزءًا من البنية الدرامية، وليس مجرد إضافة، وإنما قلبٌ نابض بالنص، وتقنية تعبيرية من تقنيات التصوير الدرامي التي تمثل صورة مهمة من صور النسيج السردي المتكامل في النص المحفوظي.
ثالثا: أسلوبية الغناء والطرب
يناقش التكرار المتعمد لمفردات غنائية داخل السرد، وكيف تخلق خطابًا منسجمًا بين الحسي والوجداني، يجعل القارئ في قلب الأنغام والغناء داخل الحدث السردي، ومن ثم فهي سمة تميز بها أسلوب نجيب محفوظ.
معجم الأغاني والأشعار:
يضم الكتاب معجمًا موسوعياً يحتوي على الأغاني والأشعار التي وردت في أعمال محفوظ، مصحوبًا بروابط للاستماع إليها في أثناء القراءة، وهو ما يعد مواكبة للتطور التكنولوجي في العصر الحديث؛ مما يوفر تجربة إبداعية تفاعلية وثرية للقارئ.
ويمكننا أن نتوقف عند لمحات مهمة في الكتاب تتمثل فيما يلي:
الغناء بوصفه وسيلة فلسفية وحضارية:
يرى المؤلف أن الغناء في أعمال نجيب محفوظ لا يخدم فقط الديكور أو الزينة الزخرفية فحسب، بل هو أداة للحوار مع الهوية والتاريخ، وجسر قوي ومهم في ربط النص بالواقع الثقافي والاجتماعي.
التواصل والتعبير الروحي:
من خلال الغنائية، يتمكن محفوظ من نقل الصوت الجمعي والمشاعر المشتركة، وتوظيفها في رسم العلاقات التي تجمع بين الذات والآخر، وبين الفرد والمجتمع .
الغناء بوصفه علاجا وجدانيا:
يُصوّر المؤلف الغناء على أنه “وسيلة علاج للنفس المتوترة”، وأن محفوظ صاغ عبره رؤى فلسفية وإنسانية خالدة.
وفي النهاية، فإن المؤلف علي قطب استطاع أن يثبت بتأليفه لهذا الكتاب “الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ” أن الإبداع النقدي لا يقل سحرا عن الإبداع الروائي، الذي كشف عن نافذة مهمة في أعمال نجيب محفوظ المملوءة بالأصوات الخفية التي شكلت بنيته السردية من خلال الأصوات والاشعار والغناء، وهو جانب لا يركز عليه كثير من الباحثين والدارسين؛ لأنه عالم خفي لا يدركه ويستشعره إلا كل قارئ حصيف ومثقف واع، فهنيئا لنا بميلاد ناقد جديد، ينتظر منه الكثير من الإبداع والنقد.