منوعات

د. أيمن صابر يكتب: القرآن الكريم: مصحف واحد أم مصاحف متعددة؟

قد يتبادر إلى الذهن بمجرد طرح السؤال أنه لا يحتاج إلى التفكير، ولو لمدة ثوان، وقد يذهب البعض إلى إنكار وجود مصحف آخر غير المصحف الموجود لديه، أو الذي تعهده بالقراءة منذ الصغر، وإذا وجد مصحفا آخر غير ما لديه، وبه ولو تغيير بسيط، فيندفع قائلا إن هذا المصحف به تحريف!

تخيل أن شخصا فتح المصحف، وهو يقرأ برواية حفص عن عاصم، وربما لا يعرف الرواية التي يقرأ بها، ومن ثم لا يعرف غيره، فوجد فاتحة الكتاب، أم القرآن، السبع المثاني، مكتوبا فيها “ملك يوم الدين” بحذف الألف، وليس “مالك يوم الدين”،

أو وجد “اهدنا السراط المستقيم سراط…”، بالسين بدلا من الصاد “اهدنا الصراط المستقيم صراط..”، أو أنعمت عليهُم..” بضم الهاء بدلا من كسرها “عليهِم”، أو ذهب إلى سورة الإخلاص التي يحفظها الناس جميعا، كما يحفظون الفاتحة، فوجد: “ولم يكن له كفؤا أحد” بهمزة فوق الواو بدلا من “كفوا”،؟

بادئ ذي بدء لا بد أن نؤكد أن القرآن الكريم موجود في عدة مصاحف، وهناك اختلافات وتغييرات، وهو ما يدفعنا إلى البحث في أسباب ذلك، من خلال الإجابة على الأسئلة التالية: من هم أصحاب القراءات العشر؟ ومن أين أتوا بها؟ وما القراءة الصحيحة أو ما أصح قراءة في القراءات العشر؟ وما الضوابط التي وضعت لقبول القراءة أو إنكارها؟.

أصحاب القراءات العشرة

اشتهر في علم القراءات أئمة عشرة هم: (نافع/ ابن كثير/ أبو عمرو البصري/ ابن عامر/ عاصم/ حمزة / الكسائي/ أبو جعفر المدني/ يعقوب/ خلف العاشر)، ولكل إمام من العشرة راويان يرويان عنه، وقد يختلف الراوي الأول عن الراوي الثاني الذي يروي عن الإمام نفسه،

فمثلا الإمام نافع، الراوي الأول: الإمام قالون، والراوي الثاني: الإمام ورش، وكل منهما يختلف عن الآخر، ولا يمكن جمعهما في مصحف واحد بأحكامهم، أصولا وفرشا، ومن ثم فهما يختلفان عن رواية حفص عن عاصم، وكذلك شعبة عن عاصم.

من هم أئمة القراءات العشر

الأئمة العشرة برواتهم العشرين ورموزهم الفردية، مع مراعاة أن كل حرف يقابل إمامًا واحدًا بترتيبهم، هم على النحو التالي: أبج نافع (قالون/ ورش)، دهز ابن كثير(البزي/ قنبل)، حطي أبو عمرو البصري (الدوري/ السوسي)، كلم ابن عامر (هشام/ ابن ذكوان)، نصع عاصم (شعبة/ حفص)، فضق حمزة (خلف/ خلاد)، رست الكسائي (أبو الحارث/ الدوري)، ثخذ أبو جعفر (ابن وردان/ ابن جماز)، ظغش يعقوب (رويس/ روح)، خلف العاشر (إسحاق/ إدريس)، وهو لم ينفرد. 

ونتيجة أنهم قد يتشابهون في الأصول والفرشيات، نجد أن هناك رموزا تجمع بينهم وتشبك بعضهم بعضا، فمثلا جاء في منظومة طيبة النشر في القراءات العشر، من الرموز ودلالاتها على النحو التالي:

كوفي/ كفى (عاصم- حمزة- الكسائي- خلف العاشر)، شفا (حمزة- الكسائي- خلف العاشر)، صحب (حفص- حمزة- الكسائي- خلف العاشر)، صحبة (شعبة- حمزة- الكسائي- خلف العاشر)، صفا (شعبة- خلف العاشر)، روى (الكسائي- خلف العاشر)، رضى (حمزة- الكسائي)، ثوى (أبو جعفر- يعقوب)، سما (نافع- ابن كثير- أبو عمرو البصري- أبو جعفر- يعقوب)، حرم ( نافع- ابن كثير- أبو جعفر)، حق (ابن كثير- أبو عمرو البصري- يعقوب)، حما (أبوعمر البصري- يعقوب)، عم (نافع- ابن عامر- أبو جعفر)، حبر (ابن كثير- أبو عمرو)، كنز (ابن عامر- عاصم- حمزة- الكسائي- خلف العاشر).

ونضرب مثالا على ذلك لتقريب وتوضيح الرموز الواردة في متن الطيبة بالبيت التالي:

يصلى اضمم اشدد كـم رنا أهل دما   با تركبن اضمم حما عم نـما

ففي الشطر الأول، نجد حروفا عريضة في بداية الكلمات، وهي: ( ك- ر- أ – د)، وتقابل من الرموز السابقة على الترتيب: ( ابن عامر- الكسائي- نافع- ابن كثير)

وفي الشطر الثاني نجد رموزا مجمعة ورمزا فرديا، وهي: (حما –عم –ن) ويقابلها على الترتيب ) أبو عمرو البصري ويعقوب- نافع وابن عامر وأبو جعفر- عاصم)، وهو أمر بسيط إذا تأملت الرموز ووضعتها أمامك.

أي القراءات القرآنية صحيح؟

مما لا شك فيه أن القراءات العشر جاءت متواترة بضوابط شديدة الدقة، وقبل كل هذا نؤكد أنها رويت بسلسلة من الإسناد وصولا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وأقرأ أصحابه بها، وذكرها ابن الجزري في منظومته طيبة النشر في القراءات العشر :

فكل ما وافق وجه نحو     وكان للرسم احتمالا يحوي

وصح إسنادا هو القرآن     فهذه الثلاثة الأركان

ومعنى هذا أن هذه الشروط الثلاثة متوفرة في القراءات العشر المتواترة، وهي: موافقة اللغة العربية، ولو بوجه من الوجوه الصحيحة، سواء أكان مجمعا عليه أم مختلفا فيه، وتلقاه أئمة القراءات، وأقروه بالسند الصحيح الحسن؛ وموافقة رسم أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالا، وصح سندها وتواترها دون انقطاع،

هذه الشروط الثلاثة إذا ما اجتمعت في قراءة فهي قراءة صحيحة معتبرة ومقبولة، ولا يجوز إنكارها، أو ردها، وهي من الأحرف السبعة التي نزل بها كلام الله على رسوله الكريم.

ومما ورد في هذا الشأن ما ذكره ابن الأنباري في نزهة الألباب، حيث قال: “قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: من يقرئني شيئا مما أنزل الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم- فأقرأه رجل سورة براءة، فقرأ: (إن الله بريء من المشركين ورسولِه” بجر اللام (رسولِه)، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه!

فبلغ ذلك عمر فدعاه، فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة لا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني؟ فأقرأني هذه السورة براءة، فقال: “إن الله بريء من المشركين ورسولِه” !

فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله؟ إن يكن الله -تعالى- برئ من رسوله، فأنا بريء منه، فقال عمر-رضي الله عنه- ليست هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: “إن الله بريء من المشركين ورسولُه”، بالرفع، فقال الأعرابي: أنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر رضي الله عنه ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة العربية”.

ومن ثم؛ فالقراءات العشر المتواترة صحيحة، تلقاها بعض الصحابة الكرام عن رسولنا الكريم ، عن سيدنا جبريل -عليه السلام- عن رب العزة، ونقلوها إلى غيرهم، ووصلت إلى الأجيال التالية بالتلقين والإسناد.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى