د.أيمن صابر سعيد يكتب: رحلة في علم لغة النص وتحدياته

رحلة في علم لغة النص وتحدياته
لقد بهرني علم النص وأغراني كما أغرى غيري، وتلقيته بشغف كبير، ملك علي وجداني لسنوات طويلة، خاصة في مطلع القرن الحادي والعشرين، في المرحلة الجامعية، وصلت إلى درجة الفتنة بمصطلح “نحو النص”، وانضممت دون أن أعي أو يكون لدي الفكر أو الرؤية أو الدراية الكافية، ربما بسبب الحماسة الزائدة، إلى أصحاب الفكر والتمرد على “نحو الجملة”، واتباع الداعين إلى نحو النص الذي لا يتوقف عند دراسة اللفظة المفردة أو الجملة في صورتها التقليدية التي حدد عناصرها النحاة القدامى اسمية أو فعلية ولا ثالث لهما، والانتقال إلى “نحو النص” الذي يركز على دراسة البنى التركيبية التعبيرية، وعلاقاتها بغيرها من الأحداث الكلامية السابقة لها أو اللاحقة عليها، وذلك باعتبارها وحدة واحدة أو كلا واحدا، وهذه الفتنة سبقتها فتنة أخرى، لكنها كانت أضعف حدة، وأقل اقتناعا، وسرعان ما انصرفت عنها وانصرفت عني، وهي فكرة “النحو الحديث”، والذي كان ماثلا في ذهني بأن هناك نحوا جديدًا، مغايرا للنحو الذي يراه الكثير من الناس صعبا ومعقدا، هذا لمجرد أن يسمع كلمة “نحو”، دون أن يعرفه أو يحاول فهمه، ويبدو أن إضافة كلمة “حديث إلى أي شيء تأخذ الألباب إلى حيث تشاء.
وأما عن روافد الفكر الغربي وعلاقته باللغة العربية؛ فقد كنت محظوظاً بعلاقتي وصداقتي بالمرحوم الأستاذ الدكتور محمد الزغبي -الأستاذ بكلية الآداب- جامعة عين شمس، الذي حصل على درجة الدكتوراه في كتاب سيبويه من إحدى الجامعات الألمانية، وقد كانت علامة استفهام كبيرة لي، في ذلك الوقت، كيف يمكن هذا، ونحن أصحاب اللسان العربي؟! إلا أنه أوضح لي على مدار لقاءات ومقابلات كثيرة، فضل هذه البعثة على فكره وبنائه العلمي واتساع مداركه، وأنه استعمل في رسالته عن سيبويه مرجعين عربيين فقط، وجميع مراجع الرسالة كلها باللغات الأجنبية، وعرف عن سيبويه ما لم يعرفه من قبل، في ظل هذه المدارس الفكرية الغربية، ومن خلال المستشرقين الغربيين، ودائما ما كان يتحدث عن المستشرق الألماني أوجست فيشر August Fischer، وأنه تلقى الكثير من المناهج الغربية التي غيرت نظرته للدراسات العربية المختلفة. وهو ما دفعني بقوة إلى التفكير، في الذهاب إلى ألمانيا؛ لأنال ما ناله أستاذي من علم وفكر ومعرفة والاطلاع على هذه المناهج الغربية، إلا أن الظروف حالت دون تحقيق ذلك.
وإذا ما نظرنا إلى علم لغة النص -وقد اخترت هذا الاسم اقتداء بأستاذي الدكتور سعيد بحيري- فسنجده فرعا من فروع اللسانيات التي تعنى بدراسة النص وإبراز مميزاته السطحية الظاهرية من خلال دراسة البنى التركيبية المكونة للجملة أو النص على حد سواء، وكذلك إبراز مميزاته العميقة الخفية من خلال الكشف عن العلاقات الدلالية المتنوعة، والبحث عن محتواه الإبلاغي التواصلي التداولي، وتحديد الكيفيات التي تنسجم بها الأبنية اللغوية اللفظية النصية، وكيفية تماسكها وتلاحمها من خلال العلاقات المعنوية الكلية العميقة للنص.
ويتسم علم لغة النص عن العلوم العربية الأخرى بتشعبه إلى حد بعيد، وتداخله معرفيا مع عدة علوم كعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة وغيرها، وهو ما يضفي عليه -في كثير من الأحيان- خاصية الغموض، وصعوبة الوقوف عند حد معين، عند بحث مسائله وقضاياه؛ نتيجة قدرته الفائقة على استيعاب كل هذه العلوم المتابينة في نسيج واحد هو النص، سواء في الفكر العربي القديم الذي ظهرت إرهاصات الاهتمام به، وإن كان في صور مغايرة، أو الفكر الغربي الحديث؛ إذ إننا لا نجد -رغم كثرة الدراسات والأبحاث- في هذا المجال إلا قدرًا ضئيلا من الاتفاق حول مصطلحاته، وقضاياه، ومناهجه؛ حيث إنه قد احتوى كمًا كبيرا من المصطلحات البينية المتداخلة مع فروع متعددة؛ نظرا لكثرة منابعه وتعدد الرؤى الفكرية العقلية أو المنطقية لمدارسه؛ ولذا فلا عجب؛ فقد تعددت الاتجاهات البحثية وتشعبت؛ وفق الأسس الفكرية التي تستند عليها، فتنوعت بين علم اللغة الوصفي، أو علم اللغة الوظيفي، أو علم اللغة التركيبي… إلخ.
إن دراسة علم لغة النص تهدف إلى محاولة الكشف عن الكيفية التي يتحقق بها التماسك النصي، بحيث تصير النصوص -في نهاية الأمر- وحدة واحدة متماسكة على مستويين مهمين لا يستغني أحدهما عن الآخر؛ هما: الربط النحوي Cohesion الذي يتضافر معه رابط آخر في تشكيل النص هو الربط الدلالي Coherence؛ ومن ثم فلا يتحقق التماسك النصي عن طريق الجانب النحوي التركيبي فقط، بمعزل عن الجانب المضموني العميق؛ فالتماسك النصي هو تماسك نحوي دلالي في آن واحد.
ويعد الربط النحوي عنصرًا مهما من عناصر التماسك (السبك/ الربط/ الوصل) في الجملة الواحدة وما بين الجمل، وقد تنبه علماؤنا العرب القدامي؛ نحاة ولغويين وبلاغيين إلى هذه الظاهرة المهمة، وتناولوها بالدراسة والتحليل في ثنايا بحوثهم، ثم اتسعت هذه الدراسات والبحوث بظهور المنهج اللساني النصي في سبعينيات القرن الماضي تقريبا؛ إذ تم تناولها على أيدي اللسانيين تناولا مختلفا عما تناوله القدماء؛ فظهرت مؤلفات متخصصة في الربط، ومصطلحات جديدة وآراء وأفكار تؤسس النظرية يمكننا أن نطلق عليها نظرية علم النص، أو نظرية علم لغة النص أو علم اللغة النصي تهدف إلى تحقيق تماسك أجزاء النص، وربطها ببعضها بعضا، سواء أكانت قريبة أم بعيدة، بحيث يصير النص كلا واحدا، ومن ثم يتحقق التماسك النصي Textual Coherence.
وإذا نظرنا في وسائل الربط؛ سواء على المستوى النحوي أو الدلالي، نجد أنها تسهم في تحقيق الترابط بين أجزاء النص وتماسكه، بدءا من الوحدات الجزئية، مرورا بالمتواليات الجملية، وصولا إلى الدلالة الكلية للنص بوصفه بنية كبرى شاملة، وفق رؤية شمولية تنظر إلى النصوص على أنها شبكة من العلاقات النحوية والدلالية والتداولية تسهم كلها في تحقيق التماسك النصي؛ اتساقا وانسجاما، سبكا وحبكا، وفق منهجية لا تغفل تراكيب الجملة ونحوها ودورها في تحقيق التماسك، ولكنها في الوقت نفسه تنحو بالجملة نحوا جديدا، يتمثل في عدم اعتبار الجملة أكبر وحدة، بل يعد النص وحدة كبرى شاملة لا تضمها وحدة أكبر منها منطلقين من الجملة، وكاشفين عن علاقاتها ببقية الجمل الأخرى المكونة للنص، بالإضافة إلى علاقاتها الارتباطية بالسياق، ومنتجه ومتلقيه، وظروفه المحيطة.
ولا تزال جهود الأستاذ الدكتور سعيد بحيري تقدم كثيرا من الشرح والتوضيح والبيان والتصحيح، عن طريق ترجمته لكثير من الكتب من الألمانية إلى العربية، متعه الله بالصحة والعافية، ونفع بعلمه.