جدلية الوهم والأمان في رواية “السراب” لنجيب محفوظ
تكشف رواية “السراب”(1948) لنجيب محفوظ عن مأساة إنسان لم تهزمه قسوة الحياة، بل أرهقته الحماية الزائدة، فشبّ في عالمٍ آمن ظاهريًا، هشّ في جوهره. ومن خلال تحليل نفسي دقيق، يرصد محفوظ كيف يتحول الأمان إلى وهم، وكيف يصبح الخوف من التجربة سببًا في ضياع الحياة ذاتها.
تعد رواية “السراب” واحدة من أكثر روايات نجيب محفوظ عمقًا من الناحية النفسية، وأقلها صخبًا من حيث الأحداث، لكنها في المقابل أشدها قسوة في كشف العطب الداخلي للإنسان. لا تقوم الرواية على حبكة تقليدية أو صراع خارجي واضح، بل تتأسس على صراع داخلي خفي، يتنامى بصمت حتى يبلغ ذروته في لحظة انكشاف موجعة؛ حيث يكتشف البطل أن حياته بأكملها لم تكن سوى وهمٍ طويل متخيل… “سراب”.
أولًا: العنوان ودلالته الرمزية
يحمل عنوان الرواية “السراب” دلالة مركزية تختصر عالم النص كله. فـ”السراب” هو ما يبدو حقيقيًا من بعيد، لكنه يتبدد عند الاقتراب. هكذا هي حياة البطل كامل رؤبة لاظ؛ حياة قائمة على شعور زائف بالأمان، وتصورات غير حقيقية عن الذات والعالم. لم يكن “السراب” حلمًا ورديًا فحسب، بل كان أيضًا قيدًا نفسيًا يمنع الحركة والنمو. ومنذ العنوان، يضعنا محفوظ أمام رواية عن الخيبة الوجودية، لا عن الفشل العابر، وعن وضع يموج بالفشل.
ثانيًا: الشخصية المحورية “كامل”
يُقدّم محفوظ شخصية “كامل” بوصفها نموذجًا لإنسان شُكِّل بالخوف لا بالتجربة؛ فنما وتربى وترعرع على الخوف الذي صار مكونا رئيسيا في شخصيته؛ حيث نشأ كامل في كنف أم أرملة، فرضت عليه عزلة خانقة بدافع الحب والحماية والخوف عليه من الهواء الطاير، فصار هذا الحب المفرط سببًا مباشرًا في تشوّه شخصيته، وهو ما يجعلنا نستحضر المقولة المشهورة الراسخة في وجداننا (الشيء إذا زاد عن حده انقلب ضده)؛ ومن ثم فلم يتعلم كامل المواجهة، ولا الاحتكاك بالحياة، بل تعلّم الانسحاب والتردد والهزيمة بكل صورها.
شخصية “كامل” ليست شريرة ولا فاسدة، بل شخصية عاجزة هشة ضعيفة، وهذا ما يجعل مأساته أعمق. فهو لا يخطئ عن قصد، لكنه يفشل لأنه لم يُمنح أدوات الحياة. وقد برع محفوظ بتمكن كبير في إظهار في رسم شخصية سلبية دون أن يجعلها سطحية؛ فالصمت، والتردد، والانسحاب، تتحول إلى سمات درامية ذات دلالة.
ثالثًا: الأم ودورها في صناعة الوهم
تلعب الأم دورًا محوريًا في تشكيل عالم الرواية، فهي ليست مجرد شخصية ثانوية، بل تمثل مصدر الوهم الأول؛ حيث إن حبها لابنها لم يكن حبًا صحيًا، بل حبًا امتلاكيًا أنانيا مرضيا، قائمًا على الخوف من العالم. صنعت له عالمًا مغلقًا، آمنًا ظاهريًا، لكنه معزول عن الواقع؛ فمثلا تقول له حين أخبرها أنه يريد اللعب مع الرفاق، بعد أن ملَّ الجلوس في الشرفة وحيدا: “ماذا حدث لعقلك؟.. ألا ترى أنهم لا يكفون عن العراك؟ ما عسى أن أفعل لو ضربوك أو جرحوك؟.. أو خرجوا بك إلى الطريق لا تنقطع به العربات؟ بل ماذا تفيد منهم إلا الشقاوة وسوء الأدب؟ أما أنا فأقص عليك القصص، وإذا شئت خرجنا معا لزيارة السيدة زينب. إذا كنت حقا تحبني فلا تفارقني…لقد حرمت رؤية أختك وأخيك، ولم يبق لي في الدنيا سواك، وها أنت تود فراقي، سامحك الله..:.
وهنا يتودد إليها قائلا:
“إني أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا، ولكني أريد أن ألعب”.
ومن خلال هذه العلاقة، ينتقد محفوظ نموذج التربية القائمة على الحماية الزائدة، ويكشف كيف يمكن للأم -رغم حسن النية- أن تكون سببًا في إعاقة النضج النفسي. فالأم -هنا- ليست شريرة، لكنها مسؤولة عن تحويل الحياة إلى سراب جميل، لا يصلح للعيش.
رابعًا: الزواج بوصفه لحظة الانكشاف
يشكل زواج كامل نقطة التحول الأساسية في الرواية. فالزواج، الذي يفترض أن يكون بداية حياة جديدة، يتحول إلى مرآة كاشفة لكل العيوب المكبوتة. يكتشف كامل عجزه عن إقامة علاقة إنسانية طبيعية، ليس فقط على المستوى الجسدي، بل النفسي والعاطفي.
هذا العجز لا يُقدَّم بوصفه أزمة فردية فحسب، بل نتيجة حتمية لمسار طويل من القمع والخوف. وهنا يبلغ السراب ذروته؛ فالحلم الذي انتظره كامل طويلاً ينهار في لحظة مواجهة مع الواقع، دون ضجيج، ولكن بألم داخلي بالغ.
خامسًا: البنية النفسية للرواية
تنتمي “السراب” إلى الروايات ذات الطابع التحليلي النفسي؛ حيث يقل الحدث الخارجي لصالح الغوص في الداخل. يعتمد محفوظ على السرد الداخلي، والمونولوج النفسي، ليكشف طبقات الشخصية واحدة تلو الأخرى. الزمن في الرواية بطيء، متثاقل، يعكس حالة الركود التي يعيشها البطل.
ولا يسعى محفوظ إلى تقديم حلول أو خلاصات جاهزة، بل يترك الشخصية غارقة في إدراك متأخر لحقيقتها. فالمعرفة هنا لا تؤدي إلى الخلاص، بل إلى الألم.
سادسًا: دلالة الفشل في الرواية
الفشل في “السراب” ليس حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة طبيعية لمسار خاطئ منذ البداية. وهو فشل وجودي شامل، لا يقتصر على الزواج أو العمل، بل يشمل العلاقة بالذات والعالم. ومن خلال هذا الفشل، يطرح محفوظ سؤالًا جوهريًا:
هل يمكن للإنسان أن يعيش حياة كاملة دون أن يختبر الألم والمخاطرة؟
الإجابة التي توحي بها الرواية قاسية: الحماية الزائدة قد تكون أخطر من القسوة.
وأخيرا وليس آخرا، تُعد رواية “السراب” عملًا بالغ الأهمية في مسيرة نجيب محفوظ؛ لأنها تكشف جانبًا داخليًا مظلمًا من النفس الإنسانية، بعيدًا عن الصراعات الاجتماعية الصاخبة. إنها رواية عن الإنسان الذي لم يُهزم في معركة، بل خسر الحياة قبل أن يخوضها، في رواية “السراب” لا نجد بطلاً ثوريًا ولا سقوطًا مدويًا كما هي الحال في الروايات، بل نجد أنفسنا أمام إنسان عادي اكتشف متأخرًا أن حياته كانت مجرد وهم جميل، وأن الواقع -مهما كان قاسيًا- لا يمكن الهروب منه إلى الأبد.












