د.أيمن صابر سعيد يكتب: جدلية الأرض والإنسان في رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي

جدلية الأرض والإنسان في رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي
تُعد رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي إحدى أبرز الروايات الواقعية في الأدب العربي الحديث، وهي رواية تفتح نافذة واسعة على معاناة الفلاح المصري. “أنا أعرف قريتي تماما، وأعرف أنها لم تكن تستطيع أن تقف عند شيء أو تنشغل بشيء على الأطلاق في تلك السنوات التي يلهبها دائما صراع لا يهدأ من أجل القوت”. فلم تكن الرواية مجرد عمل تخييلي، بل كانت شهادة أدبية صادقة على واقع اجتماعي شاق، وسياسي مضطرب ساحق للحياة، عاشته القرية المصرية الريفية تحت وطأة الإقطاع والظلم والحرمان. وقد استطاع الشرقاوي، بعمق رؤيته وقوة أسلوبه، أن يجعل من الأرض بطلة حقيقية للرواية موازية للحياة، وأن يرسم من خلال شخصياتها المتعددة لوحة حيّة تتجاوز حدود الزمان والمكان؛ لتصبح تعبيرًا عن صراع الإنسان الأزلي من أجل البقاء والكرامة.
البيئة الريفية وبناء العالم الروائي
تجسّد رواية “الأرض” لعبد الرحمن الشرقاوي معاناة الفلاحين في قرية مصرية قبل ثورة يوليو؛ حيث يتحكم الإقطاعيون في أراضيهم ومياههم. تدور الأحداث حول صراع الفلاحين مع العمدة ورجاله الذين يستغلونهم ويحرّمونهم من حقوقهم الأساسية. يبرز “محمد أبو سويلم” بوصفه الشخصية الأقوى، مدافعًا بشجاعة عن أرضه وحقوق أهل القرية. إلى جانبه تظهر شخصيات مثل |عبد الهادي| المتردد، و”حسان”، و”يوسف بك الإقطاعي” الجشع، وكل منهم يعكس جانبًا من المجتمع الريفي. يتصاعد الصراع عندما يتكاتف الفلاحون للدفاع عن مياه الترعة؛ فيكشف النص عن جذور الغضب الشعبي. وتنتهي الرواية بنهاية مأساوية، رمزا لفداء الأرض وصراع الفلاح المستمر ضد الظلم.
قضية الأرض والصراع الطبقي
منذ الصفحات الأولى للرواية، يدرك القارئ أنه أمام عالم يشبه المسرح الكبير؛ حيث تتفاعل الشخصيات وتتداخل مصائرها في دائرة واحدة: الأرض. فهي ليست مجرد مساحة زراعية أو مورد رزق، بل هي كيان حيّ ينبض، ورمز للهوية والوجود. كل ما يحدث في الرواية يدور حول الأرض: منازعات، ظلم، حب، كراهية، مردود اقتصادي، سلطة اجتماعية، وحتى الموت. فالأرض هنا هي الشرارة التي تؤجج الصراع، وهي الغاية التي يسعى الجميع إلى امتلاكها أو الدفاع عنها.
بناء الشخصيات وتعدد الأصوات
وقد برع الشرقاوي في رسم شخصية الفلاح المصري لا بوصفه كائنًا ساكنًا مستسلِمًا كما صُوّر كثيرًا في الأدب العربي، بل بوصفه إنسانًا مكافحًا، حساسًا، قادرًا على الغضب والتمرّد حين يُسلب حقه. من خلال شخصيات مثل محمد أبو سويلم، وعبد الهادي، والشيخ يوسف، والشيخ علواني، ووصيفة، وخضرة، والعمدة، ودياب، والمأمور، والناظر حسونة، ومحمود بك، يتعرف القارئ على نماذج بشرية حقيقية تحمل في أعماقها التناقضات نفسها التي يحملها الإنسان في كل مكان: الحب والغيرة، الطمع والخوف، القوة والضعف، إلا أن ما يميز هؤلاء هو ارتباطهم الجذري بالأرض، ذلك الارتباط الذي يكاد يكون عضويًا، وما يتعلق بها من حقول وزروع ومياه وحيوانات وأدوات زراعية.
ويظهر البعد الاجتماعي للرواية في جسارة الشرقاوي وهو يفضح ممارسات الإقطاع، ويتناول علاقة السلطة بالفلاحين. فالإقطاعي في الرواية ليس مجرد شخصية واحدة، بل سلطة متجددة ومتعددة الوجوه، تتجسد أحيانًا في العمدة، وأحيانًا في فتواته، وأحيانًا في القوانين التي تُسنّ لحماية مصالح الطبقة المتحكمة. يُظهر الشرقاوي هذا النظام القائم على الظلم بوصفه بنية متكاملة، يساند فيها كل عنصر العنصر الآخر بهدف خلق دائرة قمع لا يستطيع الفلاح الخروج منها بسهولة.
الصراع والظلم والمقاومة
ورغم قتامة الواقع، فلا ينسى الشرقاوي أن يغرس في ثنايا الرواية بذور الأمل. فالفلاحون، على اختلاف طباعهم، يظهرون قدرات كامنة على المقاومة والتكاتف. يتجلى ذلك في تجمّعهم للدفاع عن مياه الترعة، وفي لحظة الوحدة حين يدركون أن الأرض ليست مجرد ثروة فردية فحسب، بل هي ميراث جماعي لا يمكن التفريط فيه. وهنا تظهر براعة الشرقاوي في بناء خطاب إنساني وجماعي، يلتقي مع روح الواقعية الاشتراكية التي تأثر بها في كتاباته. “ومضى الصول في المقدمة على حصانه، واندفعت وصيفة تمسك بالصول فدفعها في بطنها بقدمه”.
اللغة والأسلوب
اللغة في الرواية تعد عنصرًا فنيًا بارزًا؛ فقد استخدم الشرقاوي لغة عربية فصيحة ممزوجة بروح العامية؛ مما منح النص صدقًا وحميمية. كانت اللغة جسرا بين القارئ وعالم الريف، لا تبتعد عن الواقع ولا تنفصل عن جماليات التعبير الأدبي. يستخدم الكاتب لغة مستمدة من البيئة الزراعية، ويصف الأرض والماء والنخيل والغيطان وصفًا يجعل القارئ يلمسها بأصابعه ويشم رائحتها. ولعل من أعظم نجاحات الشرقاوي أنه جعل من اللغة وسيلة لإحياء الذاكرة الريفية بكل معانيها وصورها في وجدان قارئ قد لا يكون عاش هذا العالم أو يعرفه؛ ومن ثم يجهل كل أحداث هذه الفترة والتضخيات الكثيرة من أجل حياة كريمة، لكنه يشعر به بفضل النص المهم، وبراعة مؤلفه.”الله ..يا حلاوة..هو انت؟ …إزيك؟… والله زمان…جبت لنا معاك حاجة حلوة من مصر؟ أو ما قاله الشيخ الشناوي بطيبة: “ربنا ينجح مقاصدك بحق جاه المصطفى عليه الصلاة والسلام..الفاتحة للنبي ولأهل البيت…الفاتحة”.
البنية السردية في الرواية
أما من الناحية البنائية، فجاءت الرواية في إطار سردي يعتمد على تعدد الأصوات؛ فكل شخصية تمتلك رؤيتها الخاصة، وصوتها المميز، وحكايتها التي تتقاطع مع حكايات الآخرين. لا يوجد بطل مركزي وحيد، بل تتوزع البطولة بين شخصيات متعددة، وكأن الشرقاوي أراد القول إن البطولة في الريف ليست فردية، بل جماعية. ورغم هذا التعدد، فإن البناء السردي متماسك، يتقدم نحو الذروة ببطء مدروس، حتى يصل إلى النهاية المأساوية التي تُعد من أقوى لحظات الرواية. موت “محمد أبو سويلم” ليس مجرد فاجعة إنسانية، بل هو رمز لمعاناة جيل كامل مات، وهو يحاول الدفاع عن حقه في الحياة.
بين الواقعية والرمزية
وتتجلى القيمة الفنية للرواية أيضًا في قدرتها على الجمع بين الواقعية والرمزية. فالأرض، رغم كونها واقعًا ملموسًا، تتحول في النص إلى رمز للوطن، وللكرامة، وللحرية. الصراع على الأرض هو صراع الإنسان من أجل إثبات وجوده في مواجهة قوى أكبر منه. ومن هنا، تتجاوز الرواية حدود القرية المصرية الصغيرة لتصبح رسالة إنسانية عامة. هذا التوازن بين الواقع والرمز جعل من “الأرض” عملاً أدبيًا خالدًا، ما زال قادرًا على إثارة القارئ وإلهامه رغم مرور العقود على نشره.
البعد الاجتماعي والفكري
ومن الناحية الفكرية، تُعد الرواية واحدة من النصوص التي سبقت عصرها في تناول مفاهيم العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع السلطة والثروة. كتب الشرقاوي الرواية قبل أن يصبح الحديث عن حقوق الفلاحين جزءًا من الخطاب السياسي للدولة؛ مما يجعل من الرواية نصًا جريئًا في سياقه التاريخي. لقد دعا الكاتب ضمنيًا إلى التغيير والمطالبة بالحقوق، لكنه فعل ذلك بعمق إنساني لا بشعارات مباشرة. حرص على أن يُظهر القمع من خلال تفاصيل الحياة اليومية: من منع الماء إلى الاستيلاء على المحاصيل، ومن تهديد الفلاحين بالسلاح إلى توظيف القانون لخدمة السلطة. هذه التفاصيل الصغيرة صنعت رواية كبيرة.
وأخيرا وليس آخرا، يمكن القول إن “الأرض” ليست مجرد رواية عن الفلاحين، بل هي رواية عن الإنسان في جوهره: الإنسان الذي يحب، ويخاف، ويأمل، ويغضب، ويقاتل من أجل ما يؤمن بأنه حقه. هي رواية عن العلاقة بين الإنسان والمكان، وعن الجذور التي لا يمكن اقتلاعها مهما اشتد الظلم. وربما هذا ما جعل الرواية تحظى بهذا القدر من التأثير والانتشار، وما جعلها تُحوَّل لاحقًا إلى فيلم سينمائي شهير أصبح علامة من علامات السينما المصرية؛ حيث تحول النص المكتوب إلى صوت وصورة وتجسيد رائع عبر عن الواقع المعيش.
ومن ثم، فرواية “الأرض” عمل أدبي يتجاوز حدود زمانه ومكانه، عمل يقدم رؤية إنسانية واجتماعية وسياسية بعمق وصدق، ويظل حتى اليوم شاهدًا على قدرة الأدب على فضح الظلم وصناعة الوعي. إنها رواية تُقرأ لا لمجرد المتعة، ولكن لأنها تعلمنا شيئًا عن أنفسنا وعن جذورنا، وتذكرنا بأن الأرض ليست ملكية فحسب، بل قيمة وهوية وانتماء.


















