د. أيمن صابر سعيد يكتب: أمل دنقل وسبارتكوس ورمزية القناع

أمل دنقل وسبارتكوس ورمزية القناع
ها هي قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة” تعبر عن حالة من الترقب والقلق وانتظار ما هو آتٍ، وانتظار المصير المحتوم، ولكن الشاعر يستدعي رمزا من رموز المقاومة التاريخية، وهو “سبارتكوس” ذلك البطل المعلق على المشانق الرومانية، في أقسى اللحظات الحرجة التي يعيشها، وهي لحظات ما قبل الموت، وتحقق النهاية المأساوية “الشنق”؛ ثمنًا للنضال والكفاح عن وطنه، ثمنا لشرفه وتحمله مسؤولية الدفاع عن رفاقه؛ فهو يعلم أن الموت سيكون للجسد والبقاء للروح، فالموت إذن ليس موتا حقيقيا، فها هو يحيا بكلماته ووصاياه؛ فيقول:
مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
وجبهتي بالموتِ مَحنيَّهْ
لأنني لم أَحْنِها.. حَيَّهْ!
ثم يبدأ الشاعر بالنداء على من وصفهم بـ “إخوته” الذين يعبرون الميدان، وهنا يؤكد بندائه عليهم بأصل القضية ووحدته في الانتماء والمقاومة والتمسك بالمبادئ والكرامة والوقوف صفا واحدا في مواجهة الظلم، فهم جميعا في ساحة الصراع، وهو لا يملك في هذه اللحظات غير تقديم النصيحة أو فلنقل الوصية، وهي تتضمن ما عاش عليه وناضل من أجله، وهي مت أطلق عليها “كلمات”، وهي مرادفة لكلمة “وصايا” بالمعنى الأشمل والأعم، مقتضبة وواضحة ومركزة، وربطها بشخصية تاريخية مناضلة، عاشت وماتت من أجل قضية وطنية مصيرية، وأضاف إليها لفظة “الأخيرة”، لبيان صدق هذه اللحظة، فهي الأخيرة والملهمة والقوية والداعمة في آن واحد؛ فهو لا يريد أن تنتهي القضية بنهاية فرد أو مجموعة، فلتستمر المطالبات والحقوق، وإن كان القلق والفراق ورائحة الموت واليائس هو المسيطر على الجو العام للقصيدة؛ فيقول:
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في المِيدان مُطرِقينْ
مُنحدرين في نهايةِ المساءْ
في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ
لا تخجلوا.. ولترْفعوا عيونَكم اليّ
لأنكم مُعلَّقونَ جانبي.. على مشانِق القيصَرْ.
فلترفعوا عيونَكم اليّ
لربما.. إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيّ:
يبتسمُ الفناءُ داخلي.. لأنكمْ رفعتم رأسَكمْ.. مرَّهْ!
“سيزيفُ” لم تعدْ على أَكتافهِ الصَّخرهْ
يحملُها الذين يُولدونَ في مخادِع الرقيقْ.
والبحرُ.. كالصّحراءِ.. لا يروي العطَشْ
لأنَّ من يقولُ “لا” لا يرتوي إلاّ مَن الدُّموعْ!
.. فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ
فسوف تنتهونَ مثلَه.. غدا
وقبّلوا زوجاتِكم.. هنا.. على قارعةِ الطريقْ
فسوف تنتهون ها هنا.. غدا
فالانحناءُ مُرّ..
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرّجالِ ينسجُ الردى
فقبِّلوا زوجاتِكم.. إني تركتُ زوجتي بلا وداعْ
وإن رأيتم طفليَ الذي تركتُه على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلّموهُ الانحناءْ!
علّموهُ الانحناءْ!
اللهُ. لم يغفر خطيئةَ الشيطانِ حين قال لا!
والودعاءُ الطيبونْ..
هم الذين يرِثون الأرضَ في نهايةِ المدى
لأنهم.. لا يُشنقون!
فعلّموهُ الانحناءْ!
وليس ثَمَّ من مَفَرّ.
لا تحلُموا بعالمٍ سعيدْ
فخلف كل قيصر يموتُ: قيصرٌ جديد!
وخلف كل ثائرٍ يموتُ: أحزانٌ بلا جدوى..
ودمعةٌ سُدى!
وها هو شاعرنا يقدم صورة غير حقيقة، واعتذارا ليس بالمعنى المعتاد، فهو على سبيل السخرية، فإن كنت تراني أنت أخطأت فقد أخطأت، وهم ما يقابله عدم الاعتراف بالجرائم المنسوبة إليها، والتهكم على القامع المتجبر، فكأنه يسمعه ما يريد أن يسمع، فهو في حالة قمع والرفاق المطرقين منحني الرؤوس والمملوءين بالخوف والخجل، فالعدالة معكوسة، وقضية الظلم الأبدية مستمرة، والكلام لا يفيد؛ ولذلك خرجت كلمات الشاعر لبيان الإصرار والمواجهة والمقاومة؛ فيقول:
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ.. إني أَعترِفْ
دعني على مِشنقتي أَلْثُمُ يَدكْ
ها أنذا أُقبّل الحبلَ الذي في عُنقي يلتفّ
فهو يداكَ، وهو مجدُك الذي يجِبرُنا أن نعبُدَكْ
دعني أُكَفِّرْ عنْ خطيئتي
أمنحكَ بعد ميتتي جُمْجُمَتي
تصوغُ منها لكَ كأساً لشرابِك القويّ
.. فإن فعلتَ ما أريدْ
إن يسألوك مرةً عن دميَ الشهيدْ
وهل تُرى منحتَني “الوجودَ” كي تسلُبَني “الوجودْ”
فقلْ لهم: قد ماتَ.. غيرَ حاقدٍ عليّ
وهذه الكأسُ التي كانتْ عظامُها جمجمتَه
وثيقةُ الغُفرانِ لي.
يا قاتلي: إني صفحتُ عنك..
في اللّحظةِ التي استرحتَ بعدَها مني:
استرحتُ منكْ!
لكنني.. أوصيكَ إن تشأْ شنقَ الجميع
أن ترحم الشجر!
لا تقطعِ الجذوعَ كي تنصبَها مشانقاً
لا تقطعِ الجُذوع
فربما يأتي الرَّبيع
“والعامُ عامُ جوع”
فلن تشمَّ في الفرُوعِ.. نكهةَ الثَّمر!
وربما يمر في بلادِنا الصّيف الخَطِرْ
فتقطعَ الصحراء.. باحثاً عن الظلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ والرّمالِ والهجيرِ والرمال
والظمأِ الناريّ في الضُلوع!
يا سيدَ الشواهدِ البيضاء في الدُّجى..
وإذا عاودنا النظر وتأملنا هذه النتائج التي يطرحها الشاعر نجد أنها عكس بيئة الشاعر الصعيدي الجنوبي الذي بطبيعته يرفض الذل والهوان، ولا يقبل في حالة الدماء إلا بالثأر من المعتدي، والقصاص لنفسه ولأهله ولوطنه، ولا يخفض رأسه إلا لله، فهو صاحب الروح المشتعلة المتشوقة للأخذ بالثأر، ولكن حالته النفسية وصلت لمنحدر اليائس الذي يدعو إلى الحذر من الواقع المعيش القاسي، والتخلي عن التفاؤل والأمل، وعدم الانخراط في عالم سعيد متخيل أو أحلام وردية مبهجة، بل تحديد الصعوبات ومواجهات التحديات بشجاعة وعقلانية وواقعية والعمل من أجل حياة أفضل.
هذه الكلمات يكتبها الشاعر، وهو في لحظات ضعفه ومرضه، وهي لحظات صدق مع النفس، فمن يقول “لا”، وهم القلة القليلة يعلق على مشانق القيصر، في مقابل من يقولون “نعم” يحصلون على الأمان ورغد الحياة؛ فتكون النتيجة هي الرغبة غير الحقيقية في قبول الانحناء، ومن بعده تعليم نسله الانحناء، وهومشهد مأساوي حزين يعبر نفسية الشاعر السيئة المقرونة بضياع الأمل والتوتر والقلق، وبالطبع لا تعبر عن عذابات الشاعر فقط، بل تعبر آلام الأمة في ذلك الوقت؛ فيقول:
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في المِيدان في انحِناءْ
منحدرين في نهايةِ المساءْ
لا تحلموا بعالمٍ سَعيدْ..
فخلفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ: قيصرٌ جديدْ.
وإن رأيتمْ في الطّريق “هانيبالْ”
فأخبروه أنني انتظرته مدى على أبواب “روما” المُجهدهْ
وانتظرتْ شيوخ روما تحت قوسِ النَّصر قاهرَ الأبطال
ونسوةَ الرومان بين الزينةِ المُعربدهْ
ظللنَ ينتظِرْن مقدمَ الجنودْ..
ذوي الرؤوسِ الأطلسية المجعّده
لكن “هانيبال” ما جاءتْ جنودُه المجنّده
فأخبروه أنني انتظرتهُ.. انتظرتهُ..
لكنهُ لم يأتِ!
وأنني انتظرتُهُ.. حتى انتهيتُ في حبالِ الموت
وفي المدى: “قرطاجةٌ” بالنار تَحترقْ
“قرطاجةٌ” كانتْ ضميرَ الشمسِ: قد تعلَّمتْ معنى الرُّكوع
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرجال
والكلماتُ تَختنق
يا إخوتي: قرطاجةُ العذراءُ تحترقْ
فقبِّلوا زوجاتِكم،
إني تركتُ زوجتي بلا وَداعْ
وإن رأيتم طفليَ الذي تركتُه على ذراعها.. بلا ذِراع
فعلّموهُ الانحناءْ
علّموهُ الانحناءْ..
عَلّموهُ الانحِناءْ..
إن القصيدة كلها تعبر عن حالة ثائر جريح، يعاني صراعا قويا من قبل ومن بعد، وويواجه مصيرا محتوما، ونهاية كل شريف عفيف مناضل؛ لكنه لا يتوقف، ولن تهدأ نفسه إلا بعد تحقيق المراد، وسيفقد كل ما يملك في سبيل الوصول؛ فقد هانت نفسه وأولاده وزوجته ورفاقه وأهله، من أجل غاية واحدة، هي الوطن الحر؛ وقد استعان الشاعر بشخصية “سبارتكوس” كقناع يعبر بها عن كل ما في نفسه، فبالإشارة اللبيب يفهم، واستدعى شخصيات وأزمنة وأماكن أخرى، ولا يفوتنا أن نؤكد أن نهاية القصيدة تكررت فيها جملة “علموه الانحناء” ثلاث مرات، ولا تعني الاستسلام، وإنما تعني معنى معكوسا، هو الرفض والمقاومة والاعتراض، وسيظل الشاعر يحلم بعالم جديد، تتحقق فيه العدالة والحرية، عالم بلا أقنعة