د. أيمن صابر سعيد يكتب: الطريق إلى الثقافة والتعليم

الطريق إلى الثقافة والتعليم
كثيرا ما نسمع آراء وأفكارا تنظيرية كثيرة عن الثقافة وأهميتها ومؤسساتها ورجالاتها ومشروعاتها، ثم تخرج علينا طائفة من الناس تشكك في كل ذلك، وتشعرنا أننا نحيا بلا ثقافة ولا تعليم ولا رؤية ولا قوة ناعمة، ظانين ظن السوء، وناسين في الوقت ذاته أن الثقافة ضرورة من ضروريات الحياة إذا اقترنت بأمور أخرى كالتعليم الذي هو الحق الطبيعي والأدنى الذي يحصل عليه الفرد، والزراعة والصناعة والتجارة، وهي الأعمدة الأساسية لنهضة المجتمع وإقامة دولة قوية شامخة تستغني عن غيرها بما لديها، ولا تقبل أي شرط من شروط الإذلال والضعف، وقد سمعنا ورددنا هذه المقولة مرات ومرات: لن يكون قرارك من رأسك حتى تأكل من فأسك.
والثقافة ليست بدعة جديدة على الفرد والمجتمع، وإنما هي مقوم من مقومات الحياة، وصورة من صور الرقي والتقدم، وليس ذلك كله لمجرد الرفاهية، بل هو الغذاء الروحي الذي يحتاج إليه الفرد، بعد ساعات طويلة من الشقاء والكد والعمل، وهي صورة من صور المشاركة في تبادل الأفكار وتجديدها، والاطلاع على ثقافات الآخرين والاكتساب منها، في ضوء ما يفيد المجتمع، فالثقافة ليست صورة واحدة، بل هي صور متعددة لا متناهية؛ إذ إنها ترتبط بكل المجالات، العلمية والتخصصية والفنية والمجتمعية على اختلافها وتنوع مشاربها.
وفي الحقيقة، فإن الثقافة ليست جانبا تنظيريا فقط، ولكن الثقافة جانب عملي تطبيقي يتعلق بالممارسة والفعل، فعلى سبيل المثال لا الحصر من يشتري الكتب أو يبيعها أو يعمل في طباعتها دون أن يطلع عليها ويعلم ما بها، فلا ينتمي لدائرة الثقافة الحقيقية، وهذا أشبه بالجانب التنظيري، الذي إذا توقفنا عنده واكتفينا به تراجعنا كثيرا فكريا وثقافيا وعلميا، وسرنا في العربة الأخيرة من القطار لا يمكننا أن نسبق ونسابق غيرنا.
ومن هنا يجب أن نتوقف عند جانب مهم، ألا وهو كيف يمكننا أن ننمي ثقافتنا، أو ما الطريق إلى الثقافة الحقيقية والتقدم؟ والإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ليست بجديدة، بل مطروحة من أزمنة، وعلينا أن نعيد الفكرة للأذهان ونعمل على تنفيذها الآن وليس غدا، حتى نصل إلى الجانب الآمان من الحد الأدنى من الثقافة، ونحن حين نتكلم عنها نتكلم في دائرة الثقافة المصرية، ونطرح الحلول من داخل بيئتنا المصرية أو العربية التي تتشابه مع عاداتنا وتقاليدنا المتعارف عليها منذ القدم، وعلينا أولا أن نعي ما ذكره ذكره طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” إذ يؤكد على ذلك بقوله: “ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب؛ لأننا لا نريد ولا نستطيع أن نقطع ما بيننا وبين ماضينا وحاضرنا من صلة، وبمقدار ما نقيم حياتنا المستقبلة على حياتنا الماضية والحاضرة تجنب أنفسنا كثيرًا من الأخطار التي تنشأ عن الشطط وسوء التقدير والاستسلام للأوهام والاسترسال مع الأحلام…”.
ومن هنا ننتقل إلى سؤال آخر، في السياق نفسه، من المسؤول عن نشر الثقافة؟ والإجابة التي يطلقها البعض كنتيجة سريعة للتخلص من السؤال في حد ذاته: وزارة الثقافة طبعا، ثم يبدأ في الهجوم عليها واتهامها بالتقصير والفشل، حاصرين وقاصرين الدنيا كلها في وزارة الثقافة فقط، وهو فعليا جانبه الصواب في الإجابة، فالثقافة بالمعنى الشامل ليست مسؤولية وزارة واحدة أو أسرة واحدة من ملايين الأسر المجتمعية، فالثقافة بناء، وعلى الجميع المشاركة فيه حتى يكتمل البناء، ويكون في أحسن صورة ممكنة، بدءا من الأسرة المصرية الأولى المتمثلة في الأب والأم، في أقل صورة عددية متاحة، فهي اللبنة الأولى التي يكتسب فيها الأطفال صفات كثيرة جدا، ويحيون بها وعليها، على مدار حياتهم، وقد أفاض في هذا الشأن علماء النفس والاجتماع والطب، حتى ربطوا السلوكيات المكتسبة بالجنين في بطن أمه، والبيئة الخارجية للجنين قبل الولادة، ومن بعد الأسرة نجد عوامل كثيرة تتحكم في توجيه ثقافة الطفل كالإعلام، والمدارس، والنوادي والمؤسسات الدينية المختلفة، ولا شك أن كل واحدة منها تؤدي دورا كبيرا في حياة الفرد والمجتمع.
ثم ننتقل إلى سؤال آخر، وهو ردا على الفهم الذي ذكرناه سابقا، هل لدينا إستراتيجية للثقافة في مصر؟ لا شك أننا لدينا إستراتيجيات متعددة ومختلفة، ومنذ عشرات السنوات، وخطط مكتوبة ورؤى مقدمة للمسؤولين، شارك فيها العشرات بل والمئات من أبناء الوطن المخلصين، ولكن المشكلة الحقيقية تبقى في التنفيذ أو الإرادة الحقيقية في التنفيذ، وتذليل كل العقبات، والتفكير خارج الصندوق، وبداية على المستوى الجمعي لا بد من تضافر عدة جهات معا نذكر منها وزارات: الثقافة، والتربية والتعليم، والتعليم العالي، والإعلام، والأوقاف، والشباب والرياضة، مع نشر الوعي داخل الأسرة، فكثير من الأبناء يعانون من غياب متابعة الأسرة وتوجيهها، فالأب مثلا يقول: أعمل ليل نهار لتوفير احتياجاتهم، والأم تكد في أعمالها المنزلية من أجل راحة الجميع، فضلا عن أنها قد تكون لديها وظيفة والتزامات خارج البيت والأسرة، فتزداد أعبائها، ولا نسمع منهم أي التزامات تجاه الأبناء، توفير الاحتياجات فقط هو الشغل الشاغل، فهل الأسرة خارج نطاق التربية والتنشئة السليمة، فالبدايات تؤدي إلى النهايات، فإذا أردنا أن يكون لدينا جيل مثقف واع فلنبدأ من الأسرة المتماسكة الواعية المتابعة لأبنائها الحريصة على منح أولادهم الاحتياجات الأساسية التي لا تكلفنا شيئا سوى الوقت والنصح والإرشاد، فصدمات كثيرة نتعرض لها في أبنائنا، وللوهلة الأولى حين نسأل كيف حدث هذا، تكون الإجابة السريعة أنا وفرت له كل حاجة، لم يطلب شيئا إلا وجده، ولكن الحقيقة المؤلمة أين كنت أنت في حياته، متى جلست معه؟ متى نصحته؟ متى أرشدته إلى المبادئ والقيم؟ متى عدلت له سلوكه؟ ولا أبالغ حين أقول لهؤلاء الناس، وبوضوح شديد: أنت لا تعرف ابنك أو بنتك، وعليك مراجعة نفسك قبل فوات الأوان.