د.أيمن صابر سعيد يكتب: الشاعر أمل دنقل ورائعته “لا تصالح”

لا يمكن الحديث عن شاعرنا أمل دنقل، دون الوقوف طويلا عند أشهر قصائده “لا تصالح”، التي رغم وفاته منذ بضعة عقود، فإنها تظل وستظل القصيدة الأكثر حضورا وفعالية، في شتى اللقاءات والندوات والأحداث، فلا يمكن أن يذكر اسم أمل دنقل إلا مقرونا بأنه صاحب قصيدة “لا تصالح”، فقد عرف بها وعرفت به في آن واحد، وكأن الزمان يجددها والحاجة إلى ترديدها تزداد، وليست القضية شأن مصري فقط، بل إن القصيدة تمثل صحوة عربية قومية، في زمان كانت الدعوة دائما فيه إلى تحقيق وحدة عربية، وأمة واحدة، وقد قامت عليها دراسات كثيرة ومتنوعة المشارب؛ فهي في الحقيقة قصيدة تمنح قائلها قوة وحماسة ووعيا كبيرا، وتنتقل روح مبدعها بكل طاقاته إلى قائلها، في أي وقت وزمان ومكان، وهي قصيدة تقبل تعدد التأويل والتفسير.
إن هذه القصيدة لا نبالغ إن قلنا إنها صيحة مناضل ذي سمات متفردة، صاحب رحلة قصيرة نحو 43 سنة، لا يجلس على مائدة غيره، ولا يملك إلا الكلمة، سلاحه الشعر، ولا شك أن للكلمة تأثيرا كبيرا على النفس البشرية؛ فهي تحرك الساكن، وتذيب الجامد، هذا الشاعر الذي أحب وعشق تراب الوطن؛ فلم يغادر مصر، ويحيا بعيدا عنها، رغم الظروف القاسية والدعوات التي انهالت عليه؛ فكان جزءا من هذه الأرض التي ابتليت بمحنة يونيو 1967، والتي استيقظ فيها الشعب على مرارة وصدمة يشيب لها كل ذي لب، وما أقسى هذه اللحظات التي لا يمكن وصفها!.
إن قصيدة “لا تصالح” للشاعر أمل دنقل ذي الجسد النحيل الضعيف والعينين الواسعتين، سرعان ما يتحول إلى أسد جسور، وهي يلقي قصيدته بصوته القوي، ويسمع الدنيا صوته، وترن كلماته في الآذان، وتتحول كلماته إلى مقويات وفيتامينات تقوي الجسد، وتمنحه القوة، والقدرة على المواجهة، كلماته تلهب المشاعر، وتجعل الحشود تتحرك إلى حيث يوجهها، هي صيحة خالصة ومخلصة، تكشف عن شغف راسخ في الفؤاد، ولا تملك حين تسمعها أو تقرؤها إلا التصفيق الحار والهتاف؛ فها هو يقول:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب..
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما فجأةً بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ مبتسمين لتأنيب أمكما.. وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
بدأت القصيدة بمخاطبة العقل بالدليل والبرهان، فبعد النهي بـ (لا الناهية+ الفعل المضارع تصالح) المتكرر في القصيدة نحو عشرين مرة المتعدد الأغراض من نصح وإرشاد وتوسل واستعطاف ورجاء، يتدخل العقل طالبا الفهم، وكأن هناك من يقول لماذا تنهى عن ذلك الصلح؟ وما دليلك على صحة ما ذهبت إليه؟ فيجيب بمثال إجابته معلومة ومعروفة سلفا، فمن يمكن أن يتخلى عن عينيه ثم يضع مكانهما جوهرتين، فما فائدتهما؟ وهل يعوضان عن ما فقد؟! والإجابة يقدمها بعد نقاش سريع ونتيجة معلومة: “هي أشياء لا تشترى”، ثم يطوف بنا في علاقات أسرية لبيان ما يريد من ربط الصلات الجامعة: “أب- أم- أخ- طفل..”، فهو يؤكد قضايا نفسية وتاريخية وقومية بين أطراف الأمة، ثم يذكره ويطلب منه ألا يهون عليه، ولا ينساه: “هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟”، وكيف تحيا حياتك وتنسى دمائي الطاهرة التي سالت:”تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟”.
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن يا أمير الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
وكيف تصالح، وهذه الدماء قد جرت أنهارا، وإن قالوا لك رأسا برأس فلا تستجب، فليست كل الرؤوس سواء، وليس كل الناس سواء، حتى يتساوى الغريب بالقريب، ولا يمكن قبول هذا التعويض بهذا المنطق الفاسد، والوصول إلى هذا الضعف والهوان، فأنت في موقف قوة فلا تصالح من أجل أمور عظيمة، واعتبارات كثيرة، من أجل الأخوة والأبوة والطفولة والعرس والثأر… إلخ. فهو شاعر متمرد، وليس مجرد شاعر ثوري، وربما تكون صفة التمرد في هذه الحالة أكثر أهمية من صفة الغضب أو التحريض، فهو بكلماته المتمردة يحول المتلقي أو السامع إلى متمرد رافض لهذا الواقع المؤلم، وأن يجعل من كل متلق صاحب قضية، فهي مبادئ وقيم ومشاعر أمة بأكملها.
ولا شك أن الشاعر يقدم رؤيته الشخصية ورؤية من يتفقون معه أو يتفق هو معهم لحقيقة هذا الصلح المقترح؛ فهو عنده تنازل ومقايضة ولا يمكن التعويض عن كل ما فقد من أمور معنوية ومادية وبشرية، وتفريط في حق الضحايا والشهداء والمصابين، ولا يمكن الوثوق بهؤلاء الأعداء؛ لأنهم أهل الغدر والخيانة ونقض العهود، والصلح حل جزئي وبعده تضيع الحقوق وتقل الحماسة، ولا بد من حل كلي نهائي؛ فهو يرى الصلح مسكن مؤقت ثم ستعود الأمور مرة ثانية وبدرجة أسوأ من ذي قبل.
وإذا عاودنا النظر وتأملنا هذه النتائج التي يطرحها الشاعر نجد أنها نابعة من بيئة الشاعر الصعيدي الجنوبي الذي يرفض الذل والهوان، ولا يقبل في حالة الدماء إلا بالثأر من المعتدي، ويقتص لنفسه ولأهله ولوطنه، ولا يخفض رأسه إلا لله، فهو صاحب الروح المشتعلة المتشوقة للأخذ بالثأر، وهي حالة كل مصري شريف غيور على أهله ووطنه.