فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب: الدكتور مصطفى ناصف شيخ البلاغيين والنقاد

الدكتور مصطفى ناصف شيخ البلاغيين والنقاد

في عصر يختلط فيه الحابل بالنابل، ويطلق كل من هب ودب  أو يعمل بالنقد أو يطرح موضوعات في النقد، على نفسه لقب “ناقد”, وهو بعيد كل البعد عن عالم النقد وأسسه، ولا يعرف قشوره-كما كان يقول أستاذنا الراحل الدكتور عبد الهادي زاهر- رحمه الله- وينطلق ويصول ويجول تحت اسم الناقد الكبير والناقد القدير، وحين نعرض ما يقال نجده لا يمت بصلة إلى النقد، بل والأدهى من ذلك ظهور موضة الكتابة في النقد الثقافي، هذا المصطلح الواسع الانتشار، والذي كان يتهيبه كثير من الأساتذة؛ لأنهم يعلمون أنه بحر عميق بلا شاطئ.

أجدني الآن في حضرة الراحل أستاذنا الدكتور مصطفى ناصف (1922-2008)، الذي لا يغيب عن ذهني شخصه، ولا تهجرني كلماته، ولا يفارقني صوته، وهو يلقي محاضراته، في قوة ونشاط واتصال، دون انقطاع، على مدار الساعتين رغم كبر سنه، فقد كانت له محاضرة في الساعة الثامنة صباحا، يحضر ولا يتأخر، وينتهي في موعده، وأنت تسمع منه دررا وجواهر، ولا أبالغ إن قلت إن كل محاضرة تعادل كتابا جديدا في كل مرة يلقيها، ذهن حاضر لا يكرر نفسه، ولا يعيد في موضوع واحد، بل يأخذك في كل مرة إلى عوالم متسعة الآفاق، ويحلق بك حيث يشاء.

ترك الراحل إنتاجا نقديا فكريا كبيرا، منه على سبيل المثال: اللغة بين البلاغة والأسلوبية، خصام مع النقاد، طه حسين والتراث، النقد العربي: نحو نظرية ثانية، بعد الحداثة: صوت وصدى، التأويل وغيرها من الكتب والمحاضرات القيمة التي لا تنتهي.

انطلق بعد أن هضم التراث العربي واطلاعه على المناهج الغربية، في البحث عن تجديد المناهج النقدية العربية عبر رؤية فكرية نقدية جمعت بين الأصالة والمواكبة والتحديث، تنفتح على جميع المناهج في شجاعة وجسارة دون التسليم أو الاستسلام لكل ما هو غربي، أو التقديس لكل ما هو تراثي، وهو ما جعل كتبه ذات نكهة إبداعية مختلفة، تتجاوز القديم ولا تتقيد بالجديد.

ولقد كنت في غاية السعادة بالالتفات إلى منجزه النقدي والإبداعي والفكري الذي توج بحصوله على جائزة الملك فيصل 2007، قبل وفاته بفترة قليلة؛ جاء فيها “منج البروفيسور مصطفى عبده ناصف الجائزة، تقديرا لما تميزت به دراساته البلاغية من قراءة جديدة تتسم بالشمول والتنوع والأصالة، مع ربط تلك الدراسات بالبيئات التي استمدت منها أصولها أو التي تداخلت معها تداخلا وثيقا، كما أن دراساته تنم عن معرفته العميقة بالتطور الذي أحاط بالبلاغة في العصر الحديث”.

يأتي هذا التكريم المتأخر،  من دولة عربية شقيقة تتويجا لمسيرة طويلة وعطاء كبير استمر لمدة عقود، منذ منتصف القرن الماضي حتى وفاته، شارك فيها في البحث والتدريس والإشراف والتوجيه والتثقيف، من خلال حضوره في الجامعات المصرية والعربية والأوربية؛ فقد درس في مدرسة اللغات الشرقية في لندن، والجامعة الأمريكية في القاهرة، وألقى محاضرات في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، وشارك في الندوات والمؤتمرات والحلقات الإذاعية، وهو جدير بالحصول على أعلى جائزة في مصر، وهي جائزة النيل.

أتوقف عند مرحلة مهمة في حياتي ارتبطت به فيها ارتباطا وثيقا، وهي مرحلة الدراسات العليا، تمهيدي الماجستير، مرحلة الطلب والتعلم والبحث الدؤوب، وكانت من بين المواد المقررة؛ مادة “تحليل العمل الأدبي” التي يدرسها أستاذان الدكتور المرحوم عاطف جودة نصر، وما أدراكم من هو؟ والنجاح عنده عملة نادرة، وهو يقوم على نصف المادة، والدكتور مصطفى ناصف، وقرر علينا كتاب “التأويل” وهو كتاب من القطع الصغير، ولكنه يحتاج إلى مجلدات ليفهم، وقد كنت وقتها متفرغا تماما للقراءة والبحث، ويبدو أن حماسة الشباب في ذلك الوقت قد أصابتني إصابة بالغة، فلم أحسب للأمور الحسابات المطلوبة، وفي أثناء محاضرة، بعد أن حصلت على الكتاب وتناولته بالقراءة والتمحيص والتلخيص في وقت وجيز، فرفعت يدي وسألت سؤالا جر علي الويلات، دون قصد ودون وعي، وجدت الكتاب بلا مصادر؛ فسألت عن ذلك للرجوع إليها والإفادة منها، ويا ليتني ما سألته هذا السؤال، يبدو أنه فهم بطريقة معينة لا أقصدها، فبادرني بالسؤال: هل فهمت ما قرأت؟ فقلت نعم، ولكن أريد أن أزيد من المراجع حتى تكتمل الرؤية، وهنا حمل الدكتور مصطفى ناصف حقيبته وعصاه، وهما لا يفارقانه لمن يعرفه- ونظر إلي نظرة لا أنساها أبدا، ولا أستطيع تفسيرها، وقال: أنت طالب مغرور، وخرج مسرعا، وهنا كل ما كان في ذهني أنه سيجعلني على أقل تقدير أرسب في مادته، إن لم يفصلني، فذهبت مسرعا إلى المرحوم الدكتور محمد الزغبي، وقصصت عليه ما حدث، وهو يضحك بشدة، وهو يطلب مني أن أعيد الكلام، وهو يزداد في الضحك، فقلت له عن تخوفي من عقابه لي، فقال لي: لن يحدث أي شيء، هو معجب جدا بك، وأنا في منتهى الدهشة، ولو حصل حاجة هأكلمه، لكن لا تقلق، فقد حدث هذا معي منذ سنوات.

التزمت بالحضور والاختباء حتى لا يراني فيزداد غضبا، إلى أن أتت المحاضرة الأخيرة؛ فقال أنتم في مرتبة الأبناء والأحفاد، فلا أحد يغضب (يزعل) مني، وهنا تشجعت بالخروج خلفه والاعتذار عما بدر مني، وطبعا أنا لا أعلم سبب غضبه، ولكن حقه علي؛ فقد علمني ما أعجز شكره عليه حيا وميتا، فضلا عن عشقي له -رحمه الله، فرفض، وقال لي: امشي إنت عايز إيه؟ فقلت: بأعتذر، وبعد إلحاحى وتدخل أحد الأساتذة من قسم التاريخ الذي قابله صدفة وأنا أهرول خلفه؛ قالي: امشي خلاص سامحتك، والله وددت وقتها أن أقبل يده محبة وشكرا، إنه الدكتور مصطفى ناصف.

ولما ظهرت النتيجة، فقد كنت محظوظا، وتحقق كلام الدكتور محمد الزغبي، الطالب الوحيد الذي نجح في مادته، فقلت أذهب إليه وأشكره وأطلب منه الإشراف علي، فحين رآني: قال لي: إنت عايز ايه؟ فقلت له أشكر حضرتك أنا الطالب الوحيد الذي نجح في مادتك؛ فنظر إلي نظرة تعودت عليها منه قائلا بضحكة مكتومة: إنت اللي نجحت، حسبي الله ونعم الوكيل، امشي من قدامي، حاولت أشكره فلم يقبل، وقال لي: روح كمل بقى وشد حيلك، وهنا تشجعت وطلبت إشرافه علي، فقال لي: أنا مش فاضي ومبشرفش على حد، امشي بقى، وهو بالفعل كان في هذه الفترة لا يقبل الإشراف على أحد.

رحم الله أستاذي الحبيب الراحل مصطفى ناصف، وجعل علمه وعطاءه في ميزان حسناته، فهو بحق شيخ البلاغيين والنقاد، وسيستمر كذلك زمنا طويلا، ويا ليت الجامعة تكرمه بأي صورة من الصور المشرفة؛ فهو يستحق التقدير والاحترام والاعتراف بالفضل، رغم مرور السنين، وقدوة حسنة لكل الأجيال، وسأظل مدينا له ما حييت، معترفا بفضله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى