فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب : الاغتراب والبحث عن الذات: قراءة في رواية “الطريق” لنجيب محفوظ

الاغتراب والبحث عن الذات: قراءة في رواية “الطريق” لنجيب محفوظ

تُعد رواية الطريق (1964م) للمبدع العالمي “نجيب محفوظ” واحدة من أبرز أعماله في مرحلته (الفلسفية الأدبية) التي تلت حصوله على جائزة الدولة التقديرية عام 1960م. وفي هذه المرحلة انتقل محفوظ من تصوير الواقع الاجتماعي والسياسي في الحارة المصرية -كما فعل في الثلاثية- إلى معالجة الأسئلة الكبرى للوجود الإنساني: الحرية، والقدر، والمصير، والبحث عن المعنى. ومن هنا فإن الطريق ليست حكاية بوليسية أو قصة عن جريمة قتل أو نهاية مأساوية فردية فحسب، بل هي رحلة وجودية تكشف مأساة الإنسان في بحثه عن الخلاص، ففيها يصوغ “نجيب محفوظ” مأساة إنسان (بطل الرواية) يتيه بين دروب الحياة، باحثًا عن ذاته المفقودة وملاذه الغائب، في رحلة تكشف صراعات نفسية كبيرة وكثيرة وأسئلة جدلية شائكة؛ تجعلنا في حيرة مستمرة، ونخرج من دائرة صغيرة إلى دائرة أكبر، ولا نصل إلى جواب كاف شاف.

تبدأ الرواية بموت “صفية” أم الطاهر عبد الباقي؛ لتترك ابنها وحيدًا في مواجهة قدر غامض. الطاهر -المعروف بلقب “صابر”- شاب ضائع، بلا جذور ولا مستقبل، كل ما يملكه هو رسالة سرية من أمه تخبره فيها أن أباه الحقيقي لا يزال حيًّا، وأن عليه أن يبحث عنه ويجده. ومنذ هذه اللحظة تبدأ رحلة “صابر” في البحث عن الأب المجهول؛ بحثًا عن الأمن والانتماء والمعنى، وهو بالمعنى الشامل “البحث عن الذات”.

ولذا يتنقل البطل في محطات متعددة لتحقيق غايته، فهو من اللحظة الأولى يبحث عن المجهول؛ فيضطر أن يقيم مع أصدقاء عابرين، ويتورط في علاقة مع امرأة تكبره سنًا “كريمة”، ويدخل عالم الجريمة عبر “مدكور باشا”، ثم يسقط شيئاً فشيئاً في هاوية القدر المحتوم الذي لا يستطيع أن يواجهه أو يغيره، وتنتهي الرحلة بالموت -النهاية القدرية التي تضع حداً لكل محاولاته الفاشلة.

وأما عن شخصيات الرواية الأساسية والثانوية فهي: صابر (البطل)؛ يمثل الإنسان التائه الباحث عن معنى في عالم بلا يقين. ضعيف الإرادة، منقاد، لا يعرف كيف يحدد مساره؛ فيصبح ضحية لكل من حوله. شخصيته تكشف مأساة الإنسان الوجودي الذي يظل يبحث عن “الطريق” ولا يجده، والكلمة تحمل معاني كثيرة. وشخصية (الأب) الغائب (سيد سيد الرحيمي): يظل رمزاً غامضاً، لا يظهر بوضوح، بل يبقى فكرة أكثر منه شخصية حية. يمثل الأصل المفقود والمرجعية الغائبة التي يفتقدها البطل. و(كريمة): شخصية متناقضة؛ تمنح البطل الحب والملاذ لكنها في الوقت نفسه تدفعه نحو السقوط. تمثل غواية الجسد، وربما “الطريق الخطأ”. و(مدكور باشا): رمز للسلطة والفساد، يجسد الوجه الآخر للمجتمع الذي يبتلع الأفراد الضعفاء ويفسدهم. و(الأم صفية): تموت في بداية الرواية، لكنها تظل حاضرة عبر الرسالة. تمثل الحنان المفقود والبوابة التي تدفع البطل نحو رحلة البحث.

الرموز الفلسفية والدلالات

لا يمكننا أن نقرأ هذه الرواية في سياقها الأدبي فحسب، بل كان لزاما علينا أن نكشف ما وراء المعنى ونفك رموزها وطلاسمها على النحو التالي:

الطريق: ليس شارعا أو مسارا ماديا فحسب، بل رمزا لرحلة الإنسان في البحث عن مصيره. ف (الطريق) هنا مفتوح لكنه بلا علامات واضحة، وهو ما يعكس مأزق البطل في مواجهة قدر مجهول، ومصير محتوم.

الأب الغائب: يمثل الحقيقة المطلقة أو المعنى النهائي للوجود. البحث عن الأب يوازي البحث الفلسفي عن المرجع الأعلى الذي يهب للحياة قيمة.

كريمة: تجسد الانغماس في الشهوة والملذات المادية، بوصفها بديلا زائفا عن البحث الحقيقي.

القدر: يظهر في كل منعطف من حياة “صابر”. مهما حاول أن يختار، يجد نفسه مدفوعًا نحو نهاية محتومة.

وفي ضوء تفسيراتنا السابقة لشخصيات الرواية نجدها تتجاوز الحكاية إلى أسئلة وجودية عميقة -وهو ما يذكرنا بسارتر وكامو- ذات أبعاد فلسفية معقدة:

الحرية والقدر: هل يملك الإنسان إرادة حقيقية؟ فـ”صابر” يحاول أن يختار، لكنه في النهاية يسير في طريق مرسوم مسبقًا، وكأن محفوظًا يؤكد مأساة الحرية المقيّدة.

البحث عن المعنى: الأب رمز للمعنى، والبحث عنه يعكس أزمة الإنسان الحديث الذي فقد مرجعيته الروحية والدينية.

العزلة والاغتراب: “صابر” يعيش وحيداً رغم وجود الآخرين حوله. اغترابه يعبر عن أزمة الفرد في المجتمع الحديث.

الموت خاتمة حتمية: النهاية المأساوية تؤكد أن الطريق -مهما تفرعت مسالكه- ينتهي دائماً بالموت.

وإذا ما تأملنا الأسلوب الفني للروية نجد أن “نجيب محفوظ ” يستخدم أسلوباً يقوم على:

السرد البسيط المكثف: الأحداث تُروى بوضوح، لكن وراء البساطة تختبئ طبقات رمزية.

الواقعية الرمزية: الشخصيات واقعية، لكن كل شخصية تحمل معنى رمزياً أعمق من حضورها المادي.

الحوار الداخلي: كثير من الرواية يقوم على تأملات صابر وتساؤلاته، مما يعكس الطابع الفلسفي.

النهاية المفتوحة نسبياً: رغم موت البطل، يظل معنى “البحث عن الطريق” مستمراً في ذهن القارئ، وكأن الرواية لا تنتهي بانتهاء الحكاية.

آراء النقاد في رواية “الطريق”

اتفق النقاد على أن رواية “الطريق” -وهي امتداد لروايات أخرى في مشروع نجيب محفوظ- تمثل إحدى المحطات الفلسفية البارزة في مسيرة نجيب محفوظ؛ حيث عكست بعمق أزمة الإنسان في بحثه عن الحرية والمعنى وسط قوى القدر الغامضة. فرأى بعضهم، مثل “رجاء النقاش”، أنها تجربة وجودية صاغها محفوظ في قالب فني مكثف، بينما اعتبر “محمد مندور” أن الطريق ليس مسارا ماديا فحسب، بل رمزا للحياة الإنسانية بكل ما تحمله من ضياع وتشتت ومصير مجهول. بينما يرى آخرون أن “الأب الغائب” يجسد القيم الكبرى أو الحقيقة المطلقة التي فقدها الفرد والمجتمع المصري في ستينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من الطابع الرمزي الغالب، فقد نبه نقاد مثل “صبري حافظ” إلى أن الرواية تكشف أيضاً التوتر الاجتماعي والسياسي لجيل ضائع بين وعود التحرر واستمرار الفساد. ومع ذلك، وُجهت ملاحظات لبعض الجوانب الفنية مثل سلبية شخصية البطل وتوقع نهايته، غير أن ذلك لم يمنع من اعتبارها رواية محورية جسدت انتقال محفوظ من الواقعية المباشرة إلى الرمزية الفلسفية، وبقيت شاهداً على قدرته على مزج البساطة السردية بعمق المعنى.

وأخيرا وليس بآخر، نؤكد أن رواية “الطريق”ط ليست مجرد قصة عن شاب يبحث عن أبيه، بل هي استعارة كبرى عن الإنسان في بحثه الأبدي عن معنى الحياة. من خلال شخصية “صابر”، يكشف “نجيب” محفوظ عن مأساة الحرية المقيّدة بالقدر، وعن قلق الإنسان الذي يعيش بلا جذور. ورغم قتامة الصورة، تظل الرواية شهادة فنية على عبقرية محفوظ في مزج البساطة بالعمق، والواقعية بالرمز، والحكاية بالفلسفة، فرغم أنها تنغلق على مشهد مأساوي حتمي هو موت البطل، لكن معناها يظل مفتوحاً؛ إذ يبقى الإنسان في صراع أبدي مع قدره، مسافراً على طريق لا ينتهي، باحثاً عن معنى قد لا يُدركه أبداً، وتظل أسئلة الوجود الإنساني مطروحة حتى اليوم، وهي وإن كانت تعكس الواقع المعيش في ستينيات القرن العشرين (الفقر، والفساد، والعلاقات الطبقية)، لكنها في الوقت ذاته تنفتح على أفق فلسفي كوني يجعلها صالحة للقراءة في أي زمان ومكان.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى