
أمل دنقل والوصايا العشر إن الباحث المتأمل في شعر أمل دنقل يجد ملامح مميزة في شعره أشبه برسام يرسم اللوحات الفاتنة المبدعة؛ فالقصيدة عنده -في مواضع كثيرة- لوحة فنية تجسد خياله وعواطفه الجياشة وواقعه الذي يراه بعينيه؛ سواء الواقع الآني أو المستقبلي الذي يحمل النبوءة والاستشراف، إلا أنها في صورة كلمات وجمل مقروءة أو مسموعة.
ولا شك أن القصيدة حين تسمع من قائلها تزداد جمالا وروعة؛ فهو يضفي عليها أمورا ومؤثرات تساعد في التأويل والتفسير، وها هي قصائده تنطلق بإحساسه فيتفاعل معها الحاضرون والمستمعون، ويطلبون منه أن يعيدها، فكلماته تحرك الجبال، وتأثيرها يمتد ويصل مده إلى أبعد مدى، ولنتأمل الصورة الشعرية الفنية التي يقدمها في وصاياه؛ فقد نصح في الوصية الأولى برفض الذهب ثمنا للتنازل عن الشرف والكرامة والأخوة (هي أشياء لا تشترى)، وفي الوصية الثانية نصح بعدم المصالحة على الدم (أكل الرؤوس سواء؟!)، ثم في الوصية الثالثة يطلب منه أن يتذكر آلام ابنة أخيه اليمامة (الرمز)، ومواجهة الغدر والخيانة ودعاوى الإنسانية الكاذبة، والتي ظاهرها المحبة والمودة، وتحقيق العدالة وحقوق الإنسان، لكن الشاعر يحذر من هذه الخديعة؛ فيقول:
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك “اليمامة”
زهرةٌ تتسربل في سنوات الصبا
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها وهي ضاحكةٌ
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها ذات يوم أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!
ثم ينتقل إلى الوصية الرابعة، والتي تتمثل في تحذيره من الاستجابة إلى العدو رعبة في تحقيق المصالح الشخصية والمطامع الدنيوية البراقة؛ فيطلب منه أن يرفض تاج الإمارة التي سيحصل عليها مكافأة له (كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟/ وكيف تصير المليكَ..على أوجهِ البهجة المستعارة؟)؛ بسبب مشاركته في الخيانة والقتل والدمار؛ فيقول متحسرا:
(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم الآن صار وسامًا وشارة
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ بذؤابته لحظاتِ الشرف
واستطبت الترف
ثم تأتي وصيته الخامسة؛ فيطلب منه عدم الاستجابة إلى الأصوات المحبطة صاحبة الألسنة الخبيثة الجبانة التي تدعو إلى الاستسلام بحجة واهية، وهي عدم وجود قدرة وطاقة للقتال والحرب، والميل إلى قبول الشروط حتى تتوقف المعركة عند هذا الحد، وهي دعوة كاذبة، فكيف تستجيب لعدوك بدعوى السلام، والجرحى في كل مكان؟! وكيف تضمن أنك ستحيا في أمان بعدما تخليت عن سلاحك وشرفك وعرضك؟! وكيف تدعو إلى اقتسام الطعام مع عدو يمكر بك ليل نهار؟! وكيف تحلم بمستقبل مشرق، وأنت تطلب عقد معاهدة، غير معترف بها من عدوك:
(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
“.. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام..”
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام
كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر بين يديك بقلب مُنكَّس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس..
واروِ أسلافَكَ الراقدين..
إلى أن تردَّ عليك العظام!
يلح الشاعر في وصيته السادسة برفض صور التصالح حتى ولو كان نصيحة من القبيلة، أو باسم حزن جليلة ، أو اعتبار هذا صورة من صور الدهاء، بقبول جزء من الحق، ثم المطالبة به كلية تباعا، (فخذ الآن ما تستطيع)، ثم يتم إكمال ما تبقى من الحقوق على مدار الأجيال القادمة؛ ولسان الحال (خذ حقك بالتقسيط المريح حسب الظروف)، واترك نصيبا للأجيال القادمة تطالب به؛ جيلا بعد جيل:
(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن “الجليلة”
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي لمن قصدوك القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!
ثم نأتي إلى وصيته السابعة التي يحذره فيها من اتباع الخرافات والدجالين والمشعوذين الذين لا يفقهون شيئا، وليس لديهم إلا النبوءات المضللة والأباطيل؛ وقد كان من العرب -كما جاء في كتب التاريخ- من يطلبون حضور الكهان واستشارتهم والعمل بتوجيهاتهم:
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازيًا،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: “انتبه”!
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..
واهتزَّ قلبي كفقاعة وانفثأ!
وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
وفي وصيته الثامنة يطلب منه عدم المصالحة إطلاقا إلا بشروط تتمثل في أن يعود الحق كاملا إلى أصحابه، وعدم التنازل عن أي شيء، فما الصلح إلا معاهدة بين ندين، والصلح يكون عن قوة، وليس فرضا للأمر الواقع من جانب واحد؛ فالذي سرق الأرض هو لص يجب الحذر منه، وعليه إعادة الأمور إلى ما كانت عليه:
(8)
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا بهجةُ الأهل صوتُ الحصان التعرفُ بالضيف همهمةُ القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
وفي وصيته التاسعة يرى أن المصالحة غير مجدية، فعليه بالاستمرار في القتال، ولو حارب وحده، وتخلى عنه الآخرون، فقدرك أنك فارس هذا الزمان، الذي لا يتخلى عن سيفه وعزته وكرامته، ثم يؤكد في وصيته العاشرة التي تحمل رؤية الشاعر وخبرته ونصيحته: (لا تصالح… لا تصالح).
يأمره أما الوحدة العاشرة، فتعيد تكرار النهي عن المصالحة مرتين، كأنها تختصر كل ما فات، وتعيد صياغته في كلمات مأثورة، أوقع في النفس.
(9)
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
(10)
لا تصالح
لا تصالح