د. أيمن صابر سعيد يكتب: أبطال الصاعقة المجموعة 139 أو ما تبقى من الرجال

أبطال الصاعقة المجموعة 139 أو ما تبقّى من الرجال
في زمنٍ تتسارع فيه الأيام وتتشابك الأحداث، يبقى لبعض اللحظات طعمٌ مختلف لا يزول من الذاكرة. لحظةٌ تقف فيها الأمة كلها احترامًا لمن صنعوا تاريخها، ولمن وقفوا على حافة الموت؛ ليهبوا الحياة لوطنٍ اسمه عظيم محفور في قلب كل مصري مخلص عاشق لترابه، إنها مصر.. أم الدنيا.
وقد أقام المجلس الأعلى للثقافة ندوة تحت عنوان: “انتصارات أكتوبر والذاكرة الوطنية”، وكان من بين المشاركين في الندوة اللواء ماجد شحاتة -وللأسف الشديد لم أتقابل معه من قبل- من بين أبطال المجموعة 139 صاعقة، ويرجع بداية انتشار اسمه إلى الندوة التثقيفية السادسة والثلاثين بمناسبة ذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة 2022. حين وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام أبطال الفرقة 139 صاعقة -رجال حرب أكتوبر المجيدة- ليحييهم بكلمةٍ ستظل محفورة في الوجدان، ولامست القلوب، وعبرت عن أن الأمر ليس تكريما فحسب، بل تأكيدا على أن العطاء الذي قدموه لا يُنسى، وأن الأزمنة رغم تباعدها وطول أمدها، لكن البصمة تبقى ولا تنتهي، وقد توقفت طويلا أمام هذه العبارة:
“الناس في مصر يشوفوا الرجال… أو ما تبقّى من الرجال”.
كان هذا اللقاء في إطار الندوة التثقيفية للقوات المسلحة، وهو حدث سنوي يُعقَد في مصر، باجتماع قادة الدولة، وكبار الضباط، وأبطال الحروب، وشخصيات من المجتمع المدني، لتجديد الذكرى، والاحتفاء بالبطولات التي صنعت تاريخًا يُروى للأجيال، والتي كانت بعنوان: “أكتوبر … إرادة وطن”؛ وقد جرى تكريم أبطال المجموعة 139 صاعقة، الذين كان لهم دور بارز في معارك القناة، وخلال معركة “أبو عطوة”، التي اعتُبرت منعًا لاقتحام القوات الإسرائيلية مدينة الإسماعيلية.
حين صعد الرئيس السيسي المنصة لتحية أبطال الفرقة 139، وكان الجو مشحونًا بالمشاعر الوطنية والتأمل في تلك الملاحم التي لا تُنسى، والتي اقتحمت القلوب دون طلب الإذن، واستخدام كلمة “الرجال” لا يقتصر على القوام الجسدي، بل على القيم: الرجال الذين ثبتوا، والذين ضحّوا، والذين صمدوا.
لكن الربط وصلا بـ “ما تبقّى من الرجال” يلمح إلى أن: الزمن يجري على الجسد، وقد تكون الأعداد قليلة، أو أن كثيرين رحلوا، لكن من بقي منهم هم عيون التاريخ التي ترصد الذكرى، وبها ضمنيا أيضًا إقرار بأن الأبطال ما عادوا شبابًا بالمعنى المادي، ربما أعمارهم تقدمت، لكن عزيمتهم باقية، وتاريخهم لا يضمحل، وهو تكريم عاطفي وإنساني؛ تحتفي الدولة بمن تبقى من أبطال الحرب، وتقول لهم: أنتم ما زلتم في الذاكرة، وفوق الأعناق.
وقد أضاف الرئيس السيسي في كلمته كلمات أخرى تعكس هذا التكريم العميق:
“احترامي وتقديري لكم كلكم … أرجو تقبلوا اعتذارنا لو كنا مخدناش بلنا قبل كده … كان مهم قوي إنكم تكونوا موجودين النهارده علشان من خلالكم نقول لكل المصريين: دلوقتي شوفوا سعر الكرامة بيتعمل إزاي؟ لا بيتعمل بالكلام ولا بالشعارات، بيتعمل بالدم والتضحيات ولا زال باقيًا حتى الآن”.
بهذا الأسلوب لا يُكرّم الرجل فحسب، بل تُستدعى الذاكرة الوطنية، وتُقترن القيم الكبرى (الكرامة، العزة، الشرف) بالأفعال والتضحيات، لا بالكلام الفارغ، والشعارات الجوفاء.
وهذا النوع من اللقاءات لا يُعدّ مراسم بروتوكولية فحسب، بل يحمل عدة دلالات ومقاصد، ومنها: الاعتراف والوفاء؛ حين تعبّر الدولة علنًا عن رغبتها في شكر هؤلاء الأبطال، فإنها تُرسّخ مبدأ الوفاء، وتُثبت أن التضحية لا تُنسى. الكلمة التي تم اختيارها (حتى لو كانت «ما تبقّى من الرجال») هي اعتراف بأن الزمن يلتهم الجسد، لكن لا يلتهم العطاء؛ وربط الأجيال بالماضي المجيد؛ فحضور الأبطال في هذا اللقاء يُمثّل جسرًا بين أجيال الحاضر والماضي، يراه الشباب ويتعرفون على من صنعوا النصر، وليس عبر كتب وحدها، بل بحضور حيّ. بهذا، تُستعاد القيم في وعي الناس؛ وإحياء الذاكرة الوطنية وتعزيز الهوية في أوقات يمرّ فيها الوطن بتحديات داخلية وخارجية، يصبح استحضار ملاحم مثل معركة أكتوبر، وقصص الأبطال، أمرًا ضروريًا لبناء روح الانتماء، وإشاعة الفخر بأن هناك رجالًا بذلوا الغالي والنفيس. هذا اللقاء كان محطة لتذكير الناس بأن الكرامة الوطنية ليست كلمات فحسب، بل هي بتضحيات، والتأكيد على أن التضحيات ما زالت مطلوبة، حين قال السيسي: “…شوفوا ثمن الكرامة … بيتعمل بالدم والتضحيات”، فالجملة إشارة إلى أن التحديات لم تنتهِ، وأن الحفاظ على الكرامة والهوية يحتاج دائمًا إلى من يذود عنها. ليس فقط في زمن الحرب، بل في زمن السلام أيضًا؛ ومصالحة رمزية مع من قد يشعر أنهم نُسوا، حين يعتذر الرئيس “لو كنا مخدناش بالنا قبل كده”، فذلك موقف إنساني يقر بأن في مسارات الدولة قد يكون التقصير، وأن الاعتذار ليس ضعفًا بل امتنانًا وتواضعًا. إنها رسالة بأن من أسهم في صنع التاريخ يستحق أن يُذكر بقلب مفتوح، وليس بجمود بروتوكولي.
البعد الاجتماعي والرمزي للعبارة:
“ما تبقّى من الرجال” يمكن أن تُقرأ في عدة أبعاد:
بعد إنساني وزمني: الزمن جارٍ على الكل، والكثير ممن كانوا يومًا شبابًا مفعمين بالقوة قد تقدم بهم العمر، أو غادروا الحياة، لكن الذين بقوا هم رمز الثبات. الكلمة تقدّم الاحترام لهؤلاء بلا تزييف، وتستحضرهم في لحظة تأملية.
بعد معنوي ورمزي: هي دعوة للجمهور كي يضعوا أسماءهم في أذهانهم بمداد الفخر، لا كأبطال بلا ملامح، بل كوجوه تحيا في الذاكرة الوطنية.
بعد تحفيزي للحاضر والمستقبل: من يقرأ تلك العبارة يدرك أن البطولة ليست مقتصرة على زمن الحرب فحسب، بل هي إشعار بأنه إذا كان البعض قدم التضحيات، فالجميع مدعو لحراسة المكتسبات والاستعداد بالغالي والثمين إذا دعت الضرورة.
بعد سياسي ورمز الوحدة الوطنية: في لحظة كهذه، يُعطى الأبطال رسالة بأن الدولة لا تنساهم، وأن حضورهم ليس شكلاً فقط، بل معنى سياسيًا في تأكيد التلاحم بين السلطة والمجتمع، بين الدولة وأولئك الذين قدموا التضحيات في سبيلها.
هذه الجملة وهذا اللقاء الذي جمع الرئيس السيسي بأبطال الفرقة 139 صاعقة، والاحتفال الذي احتضن الذكرى، لم يكن مجرد مناسبة طقوسية، بل لحظة وطنية عميقة. الكلمة التي قالها ــ”الرجال أو ما تبقّى من الرجال”ــ لم تكن مجرد عبارات إنشائية، بل جملة تزلزل القلب، وتُعيد بناء الذاكرة، وتُعلن أن الوطن لا ينسى من ضحّوا لأجل كرامته؛ خاصة في زمن تتبدّل فيه القيم، ويقلّ فيه إحساس الجماعة، تأتي مثل هذه الاحتفاءات لتقول للناس: إن البطولة لا تموت، وإن الاسم لا يضمحل إذا كان مرسومًا بالتضحيات، وإن ذاكرة الوطن باقية ومحتفظة بأبطالها.
لقد أراد بكلامه أن يذكّرنا بأن الأوطان لا تُبنى بالشعارات ولا تُصان بالجدل، بل تظل حيّة بفضل من ضحّوا دون أن ينتظروا مقابلًا، وإن هؤلاء الأبطال الذين وقفوا على ضفة القناة في أكتوبر، يقفون اليوم على ضفة الذاكرة ليقولوا للأجيال القادمة:
(احفظوا الدرس… فالوطن لا يعيش إلا بالرجال، حتى وإن قلّ عددهم، فهم دائمًا في الوجدان، خالدون في التاريخ). عاشت مصر عزيزة أبية قوية ورحم الله شهداءها.