فن وثقافة

د أيمن صابر سعيد يكتب:نجيب محفوظ… حارس الهوية المصرية وذاكرة الوطن

نجيب محفوظ… حارس الهوية المصرية وذاكرة الوطن

يعد نجيب محفوظ (1911–2006) أحد أبرز رموز الأدب العربي والعالمي، ليس فقط لكونه أول عربي يحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1988، بل لأنه شكّل بكتاباته ذاكرة حية للمجتمع المصري في القرن العشرين

ونجح في تحويل تفاصيل الحياة اليومية البسيطة إلى مادة فكرية ثرية وجمالية خالصة تعبر بصدق عن جوهر الهوية المصرية الأصيلة؛ فلم يكن محفوظ مجرد روائي عادي يؤدي وظيفة محددة، ويسجل أحداثًا أو يرسم شخصيات، بل كان مؤرخًا للوجدان الجمعي المصري بالمعنى الشامل الأعم، وإن شئت فقل سفيرا للروح المصرية في أبعادها الاجتماعيةوالثقافية والسياسية. ومن هذا المنطلق سنتوقف أمام محطات تكشف عن رؤيته النجيبية المحفوظية للهوية المصرية.

أولًا: الهوية المصرية في فكر نجيب محفوظ

انطلقت رؤية نجيب محفوظ للأدب من إيمانه بأن الأدب يجب أن يكون ابن بيئته، وهو منهج تبناه كتير من الأدباء والنقاد العرب والغربيين، معبّرًا عن الناس وهمومهم ومشكلاتهم وأحلامهم، وفي الوقت ذاته يكون قادرًا على تجاوز المحلية إلى الإنسانية. الهوية عند محفوظ ليست مفهومًا جامدًا، بل كيانًا متغيرًا يتفاعل مع الزمن دون أن يفقد أصالته.

ومن هنا، نجد أن مشروعه الروائي الكبير سعى للحفاظ على هذه الهوية من خلال استحضار التاريخ، وتصوير المجتمع، وإبراز القيم الإنسانية الأصيلة التي تميز المصريين.

لقد عاش محفوظ في فترات التحول الكبرى في مصر، فكان شاهدا عليها، ومعاصرا لتفاصيلها: من الحقبة الملكية إلى ثورة 1952، ومن الحلم الوطني إلى صدمات النكسة ثم نصر أكتوبر 1973، ثم التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أعقبت الانفتاح الذي وصف بأنه “يداك مداح”. وقد انعكست هذه التحولات في رواياته التي رصدت ملامح الشخصية المصرية ـ على مر العصور- وهي تواجه صراع الأصالة والمعاصرة، الإيمان والشك، الثبات والتغيير، البحث والجمود.

ثانيًا: التاريخ بوصفه جذرا للهوية

في بداياته، كتب نجيب محفوظ ثلاثية تاريخية هي: “عبث الأقدار” (1939)، و”رادوبيس” (1943)، و”كفاح طيبة” (1944). من خلال هذه الأعمال، حاول محفوظ أن يعيد المصريين إلى تاريخهم القديم، وحضارتهم الفرعونية التي تمثل أساس وجودهم، ولم يكن هدفه تمجيد الماضي في ذاته، بل تأكيد الجذور العميقة للهوية المصرية، وإبراز أن روح الكفاح والاستقلال راسخة في وجدان المصريين منذ آلاف السنين.

لقد جعل محفوظ من الماضي مرآة للحاضر؛ فصراع المصريين ضد الغزو في “كفاح طيبة” هو في جوهره رمز لصراع مصر الحديثة ضد الاستعمار الأجنبي الغاصب. وهكذا، استخدم محفوظ التاريخ وسيلة لإحياء الوعي الوطني، وترسيخ الشعور بالانتماء إلى أرض مصر وتاريخها الطويل القديم الذي لا ينكره إلا جاهل أو حاقد.

ثالثًا: الحارة المصرية وعلاقتها بالهوية المصرية

من منتصف الأربعينيات، انتقل محفوظ من الرواية التاريخية إلى الواقعية الاجتماعية؛ حيث تحولت الحارة المصرية (الوطن) إلى البطل الحقيقي في أعماله؛ فالحارة عنده ليست مجرد مكان، بل هي رمز مصغر لمصر كلها، بما فيها من تنوع وتناقض وصراع بين القيم.

ففي ثلاثيته: رواية “زقاق المدق” (1947)، على سبيل المثال، نجد مزيجًا من الشخصيات التي تمثل شرائح مختلفة من المجتمع المصري، تعيش في مساحة ضيقة، ولكنها تختزن عالمًا كاملًا من الطموحات والصراعات. الحارة هنا تجسد مصر التي تبحث عن طريقها بين الفقر والمقاومة، بين الانفتاح على العالم والتمسك بالتقاليد.

أما في رواية “بين القصرين” (1956)، وهي الجزء الأول من ثلاثية محفوظ الشهيرة، فقد جسّد الكاتب من خلال أسرة السيد أحمد عبد الجواد صورة المجتمع المصري في مرحلة الاحتلال البريطاني. البيت الكبير في “بين القصرين” هو نموذج مصغر لمصر نفسها: سلطة أبوية تقيد أبناءها، وتقاليد متجذرة تواجه رغبة الشباب في الحرية. عبر هذا النموذج، استطاع محفوظ أن يقدم الهوية المصرية كحالة من التوازن الدقيق بين الأصالة والرغبة في التحديث.

رابعًا: التحول الاجتماعي وصراع القيم والمبادئ

في أعماله اللاحقة، وخصوصًا بعد ثورة 1952، قدّم نجيب محفوظ رؤية نقدية للتحولات الاجتماعية التي شهدتها مصر. ففي رواية “اللص والكلاب” (1961)، نرى البطل سعيد مهران الذي خرج من السجن ليجد أن القيم التي كان يؤمن بها قد انهارت. إنها “صرخة ضد الاغتراب وضياع الهوية” في زمن تغيرت فيه الموازين. البطل الذي يبحث عن العدالة فيتحول إلى مطارد، في إشارة إلى “الضياع” الذي أصاب الإنسان المصري بعد أن فُقدت البوصلة الأخلاقية والاجتماعية.

وفي “ثرثرة فوق النيل” (1966)، يتجلى فقدان الهوية بصورة أكثر مأساوية. مجموعة من المثقفين تهرب من الواقع إلى جلسات الحشيش على عوامة في النيل، بينما البلاد تغرق في الفساد واللامبالاة. هنا، يطرح محفوظ سؤالًا وجوديًا عن معنى الانتماء والمسؤولية، منتقدًا تخلي المصري عن دوره في حماية قيمه وهويته أمام موجات الانحلال والانغلاق..

خامسًا: القاهرة بوصفها رمزا للأمة

القاهرة في روايات نجيب محفوظ ليست مجرد مدينة، بل كيانا حيا يتنفس، ويتطور، ويحتفظ بذاكرته. من “بين القصرين” إلى “قشتمر” و”الكرنك”، ظلّت القاهرة مركز الوجود المصري، تعكس أحياءها نبض المجتمع: الفقر، والأمل، والدين، والحلم، والسياسة.

لقد كانت القاهرة بالنسبة لمحفوظ “الميكروكوزم” الذي يحتوي على كل شيء، ومن خلاله عبّر عن الهوية المصرية بعمقها الشعبي والثقافي.

إن التفاصيل التي يرسمها محفوظ عن الأسواق، والمقاهي، والمآذن، والأزقة، ليست وصفا فنيا، بل توثيقا لروح المكان الذي يصوغ وجدان المصريين. لذلك يمكن القول إن القاهرة في أدب محفوظ ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي الشخصية الأساسية التي تُمثل مصر كلها.

سادسًا: الدين والفكر في تشكيل الهوية

نجيب محفوظ لم يتجاهل البعد الديني في تكوين الهوية المصرية. ففي روايات مثل “أولاد حارتنا” (1959)، تناول محفوظ العلاقة بين الإنسان والخالق في صيغة رمزية، مبرزًا البحث المستمر عن العدل والمعرفة. ورغم الجدل الذي أثارته الرواية، فإنها أكدت أن الدين جزء لا يتجزأ من تكوين الوعي المصري، وأن التساؤل والبحث عن الحقيقة هما من سمات هذه الهوية.

وفي رواية “الحرافيش” (1977)، قدّم محفوظ رؤية فلسفية عن علاقة السلطة بالشعب، والعدل بالظلم، والخير بالشر، من خلال أجيال متعاقبة في حارة رمزية. الحرافيش –أي عامة الناس– هم جوهر مصر الحقيقي، وهم الذين يحافظون على قيمها رغم تغير العصور والأنظمة. هذا التركيز على الإنسان البسيط يُظهر إيمان محفوظ العميق بأن الهوية المصرية تكمن في وجدان الشعب، وليس في الطبقات الحاكمة.

سابعًا: اللغة والأسلوب بوصفهما من أدوات الحفاظ على الهوية

حافظ نجيب محفوظ على اللغة العربية الفصحى، لكنه جعلها قريبة من نبض الحياة اليومية، مستخدمًا تعبيرات وأمثالًا مستمدة من الثقافة الشعبية. هذه اللغة الوسيطة بين الفصحى والعامية جعلت رواياته مفهومة وشعبية، وفي الوقت نفسه أدبية راقية. إنها لغة تمثل الشخصية المصرية التي تمزج الجدّ بالسخرية، والحكمة بالبديهية، والبساطة بالعمق.
أسلوبه الواقعي المتوازن بين الوصف الدقيق والتحليل النفسي العميق منح القارئ فرصة لرؤية الذات المصرية بكل تناقضاتها. وهذا بدوره ساعد في حفظ صورة المجتمع المصري في لحظات تحوله الكبرى.

ثامنا : نجيب محفوظ والهوية الإنسانية

رغم انغماسه العميق في المحلية المصرية، استطاع نجيب محفوظ أن يعبّر عن قضايا إنسانية عامة: الصراع بين الخير والشر، الحلم بالعدالة، البحث عن الحرية والمعنى. وبهذا، ارتقى بالأدب المصري إلى العالمية دون أن يتخلى عن جذوره. لقد حافظ على الهوية المصرية لا بالانغلاق، بل بالانفتاح على العالم من موقع الأصالة.

ولذلك، يظل نجيب محفوظ نموذجًا للأديب الذي حمل همّ وطنه وهويته في كل سطر كتبه. فقد حفظ في رواياته صورة مصر كما كانت، وكما يمكن أن تكون؛ مدينة الأمل والتناقض، الإيمان والحلم، البساطة والعمق. من خلال شخصياته وحاراته وقصصه، استطاع أن يمنح للهوية المصرية صوتا خالدا في الأدب العالمي.

إن قراءة محفوظ اليوم ليست مجرد عودة إلى الماضي، بل الهدف الأساسي منها هو تأمل في حاضرنا وهويتنا التي تتشكل في كل لحظة. فهو لم يكتب عن مصر فقط، بل كتب مصر نفسها — بتاريخها، وشعبها، وروحها التي لا تموت أبدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى