فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب: حكاية “أفواه وأرانب”: المرأة والفقر والكرامة”

حكاية “أفواه وأرانب”: المرأة والفقر والكرامة

تُعد حكاية “أفواه وأرانب” للكاتب المصري سمير عبد العظيم من أهم الأعمال الاجتماعية الواقعية العربية الإبداعية؛ إذ تمثل نموذجًا واضحًا للتفاعل بين الإبداع والواقع الاجتماعي، وتعبّر عن قضايا الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري خلال فترة التحولات الاقتصادية والاجتماعية في سبعينيات القرن العشرين. تتناول الحكاية قضية الفقر والتفاوت الطبقي من منظور إنساني وأخلاقي، مركزة على العلاقة بين الكرامة الإنسانية والظروف الاقتصادية التي تحدد مسار حياة الإنسان وخياراته؛ فقد اهتمت بالإنسان البسيط بصدق، وصاغت مأساة الفقر بلغة فنية واقعية لا بلغة خطابية.

جاءت الحكاية في مرحلة شهدت مصر فيها تحولات عميقة عقب سياسة الانفتاح الاقتصادي؛ حيث تفاقمت الفوارق بين الطبقات، وظهرت طبقة جديدة من الأثرياء، في مقابل ازدياد معاناة الطبقة الفقيرة. هذا التفاوت ولّد صراعًا اجتماعيًا جديدًا عبّر عنه الأدب المصري في تلك المرحلة، ومنها حكاية “أفواه وأرانب” التي عكست بصدق ملامح تلك المرحلة؛ سواء في الريف أو المدينة.

ولم يكتفِ الكاتب بتصوير الفقر بوصفها ظاهرة مادية، بل ربطه بغياب الوعي والتربية الأسرية، وبظواهر اجتماعية مثل الإنجاب غير المسؤول والاعتماد على القدر دون تخطيط. ومن هنا يتضح أن الرواية ليست فقط معالجة فنية للفقر، بل أيضًا هي نقد اجتماعي بنائي يسعى إلى الإصلاح.

تدور الحكاية حول شخصية الرئيسية “نعمة الله”، الفتاة الريفية الفقيرة الكادحة التي تهرب من أسرتها الكبيرة بعد أن أرغموها على الزواج من رجل مسن؛ لتعمل عاملة ثم خادمة عند محمود بيه، إلى أن تنشأ بينهما علاقة إنسانية ثم عاطفية، تؤدي في النهاية إلى الزواج، ما يثير استنكار الطبقة الثرية التي ينتمي إليها الطبيب.

من خلال هذا البناء السردي، نلاحظ مستويين من الصراع:

صراع اجتماعي خارجي بين الفقر والثراء، بين الريف المتخلف والمدينة الحديثة.

صراع داخلي نفسي في شخصية نعمة، التي تبحث عن ذاتها وعن كرامتها في عالم يستعبد الإنسان تحت ضغط الحاجة.

شخصية “نعمة الله” تُعدّ نموذجًا رمزيًا للمرأة المصرية الكادحة، فهي تمثل الوعي الفطري الذي يمتلكه الإنسان البسيط رغم جهله، كما تمثل الطهارة الأخلاقية في مواجهة الفساد الطبقي.

أما الشخصية الثرية محمود بيه؛ فيمثل الوجه الإنساني للمجتمع البرجوازي، الذي لا يزال يحتفظ بضميره وقيمه، رغم انتمائه إلى طبقة مترفة.

أما عائلة نعمة في القرية، فهي تجسيد حيّ للجهل الاجتماعي والاتكالية، في حين تعكس أسرة محمود بيه المظاهر الزائفة والتفكك الأخلاقي في الطبقة الثرية.

يحمل عنوان حكاية “أفواه وأرانب” دلالة رمزية عميقة، تختزل مضمون النص بأكمله.

“الأفواه” تشير إلى الجوع والحاجة، وإلى الضغط المادي الذي يعيشه الفقراء.

“الأرانب” ترمز إلى التكاثر السريع غير المسؤول، وإلى الاستسلام للفقر بوصفه قدرًا.

بهذا التوظيف الرمزي، ينجح الكاتب في توجيه نقد اجتماعي مبطن لثقافة الإنجاب العشوائي، التي تُكرّس الفقر وتعيد إنتاجه جيلاً بعد جيل. ومن هنا يمكن القول إن العنوان يُعدّ مفتاحًا تأويليًا لفهم الرسالة الفكرية للرواية.

يعتمد الكاتب في حكايته على الأسلوب الواقعي الكلاسيكي؛ إذ يستخدم السرد الخطي المتتابع، مع تسلسل زمني واضح، وأسلوب لغوي بسيط قريب من لغة الحياة اليومية. هذه البساطة لا تعني ضعفًا فنيًا، بل هي أداة فاعلة في نقل الواقع دون تزويق.

كما أن الحوار في الحكاية يؤدي وظيفة مزدوجة: فهو من جهة وسيلة لتصوير الطبقات الاجتماعية المختلفة من خلال اختلاف اللهجات ومستويات اللغة، ومن جهة أخرى أداة للكشف عن البعد النفسي للشخصيات؛ خصوصًا في مواقف الصراع الداخلي.

من الناحية التقنية، يبرز في الحكاية توظيف الكاتب للمنظور الواقعي النقدي؛ حيث لا يكتفي بوصف الظواهر الاجتماعية، بل يتخذ منها منطلقًا لتوجيه رؤية إصلاحية واضحة. فالفقر في الرواية ليس نتيجة قدرية، بل هو نتيجة لسلوكيات بشرية قابلة للتغيير.

تحمل الحكاية مجموعة من القيم الفكرية والاجتماعية التي تعكس فلسفة الكاتب في الحياة والأدب.

فهي تدعو إلى:

– تحمل المسؤولية الفردية والاجتماعية بدلًا من التواكل.

– احترام الإنسان لذاته وكرامته، حتى في أحلك الظروف.

– التحرر من الطبقية وإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية البسيطة؛ مثل الحب والرحمة والصدق.

يظهر ذلك بوضوح في شخصية “نعمة” التي ترفض أن تُستعبد باسم الحاجة، وفي موقف محمود بيه الذي يختار الزواج بها، متحديًا معايير الطبقة. من خلال هذا الموقف، يطرح جوهر سؤالًا فلسفيًا عميقًا: هل يُقاس الإنسان بما يملك، أم بما يحمل من قيم ومبادئ؟

ينتمي الكاتب في رؤيته الفكرية إلى تيار الأدباء الإصلاحيين الذين يؤمنون بدور الأدب في تغيير الواقع الاجتماعي. لذلك، يمكن تصنيف الحكاية ضمن ما يُعرف بـ الأدب الواقعي الإصلاحي، الذي يهدف إلى توعية القارئ لا إلى مجرد تسليته.

فالقضية المركزية -وهي الفقر الناتج عن الجهل والتكاثر العشوائي- تُقدَّم بأسلوب يجعل القارئ والمشاهد -على حد سواء- يُدرك مسؤوليته كمواطن.

كما أن الكاتب لا يبرئ الطبقة الغنية؛ إذ يُظهر كيف يؤدي الترف المادي إلى فساد القيم، لكن الحل لا يكون بالصراع الطبقي العنيف، بل بـ التفاهم الإنساني والتكامل الأخلاقي بين الطبقات.

وقد عزز هذا النجاح عرض الحكاية الاجتماعية بكل مشكلاتها في فيلم سينمائي لاقى نجاحا كبيرا، ومن ثمّ، يمكن القول إن تأثير “أفواه وأرانب” تجاوز حدود الحكاية الأدبية لتصبح جزءًا من الذاكرة الثقافية المصرية؛ إذ أسهمت في إثارة نقاش مجتمعي حول الوعي الأسري والمسؤولية الإنجابية وكرامة الإنسان الفقير.

وقد قدمت شخصية المرأة الفقيرة لا ككائن مستسلم، بل كصاحبة موقف أخلاقي وفكري، وهو ما جعل من نعمة شخصية حية، تتجاوز حدود الحكاية إلى رمز وطني وإنساني. كما استطاع الكاتب أن يعبر عن موقفه بوضوح؛ حيث إنه لا يحمل الدولة وحدها مسؤولية الفقر، بل يوجه نقدا للوعي الشعب ذاته الذي يقبل على الإنجاب بلا وعي. وإن كنا نرى -ملاحظة عابرة- ميل الكاتب أحيانًا إلى المثالية الأخلاقية في تصوير النهايات، مثل زواج الفقيرة بالغني.

وفي ضوء ما تقدم، يمكن اعتبار حكاية “أفواه وأرانب” نصًا اجتماعيًا إنسانيًا يعبّر عن وعي الكاتب بمسؤوليته تجاه مجتمعه، ويجسد إيمانه بدور الأدب في إصلاح السلوك الإنساني وتنوير العقول.

إن القيمة الحقيقية للحكاية تكمن في قدرتها على تجاوز حدود زمانها؛ لتبقى صرخة فنية ضد الاستسلام للواقع، ودعوة إلى التمسك بالقيم الإنسانية الأصيلة في مواجهة الفقر والظلم والتفاوت الطبقي. وهكذا تظل “أفواه وأرانب “عملًا خالدًا، يربط بين الفن والوعي، وبين الواقعية والرسالة الأخلاقية، ويؤكد أن العمل الإبداعي لا يكون عظيمًا إلا حين يكون صادقًا وإنسانيًا في آن واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى