فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب: رحلة الإنسان بين الحلم والضياع في عالم نجيب محفوظ

رحلة الإنسان بين الحلم والضياع في عالم نجيب محفوظ

 

يُعد نجيب محفوظ رائدا من رواد الرواية العربية الحديثة، وخاصة في تعبيره الصادق عن البيئة المعيشة؛ فقد قدّم عبر أعماله صورة شاملة للإنسان المصري في مختلف مراحله التاريخية والنفسية والفكرية. ومن بين رواياته التي تجمعها رؤية فكرية وفلسفية واحدة ثلاث روايات بارزة -وقد تناولتها بالتفصيل في ثلاث مقالات سابقة- وهي: “اللص والكلاب”، و”الطريق”، و”حضرة المحترم”. وعلى الرغم من اختلاف موضوعاتها وشخصياتها، فإنها تتلاقى في جوهرها الإنساني والوجودي؛ حيث يصوّر محفوظ الإنسان في صراعه الأبدي مع القدر والمجتمع والنفس، باحثًا عن معنى في عالم يفتقر إلى المعنى، وسنتوقف عند القواسم المشتركة في هذه الروايات، على النحو التالي:

أولًا: الإنسان في مواجهة العبث

في هذه الروايات الثلاث تتجلى فكرة واحدة هي بحث الإنسان عن ذاته في عالم مضطرب فقد فيه الإيمان بالقيم الكبرى. ففي “اللص والكلاب”، يخرج سعيد مهران من السجن ليجد عالمًا تغيّر. الذين خانوه بالأمس صاروا جزءًا من النظام الجديد، والعدالة التي حلم بها تحوّلت إلى سراب. فيتمرد على الواقع، لكن تمرده يتحول إلى انتقام أعمى، ينتهي به إلى الموت وحيدًا، مطاردًا كالكلب الذي كان يلاحق غيره من قبل. وهكذا يصبح سعيد رمزًا للثائر الذي فقد البوصلة في زمن الخداع.

أما في “الطريق”، فإن بطلها “صابر” يعيش مأزقًا مختلفًا لكنه يحمل الجوهر ذاته. إنه يبحث عن أبيه الغائب، المجهول، كمن يبحث عن أصل الوجود ذاته. رحلته في المدن والطرق ليست إلا رحلة داخلية نحو الذات، لكنها تنتهي بالضياع والموت في الصحراء. الطريق الذي بدأه بحثًا عن الحقيقة ينتهي إلى العدم، وكأن نجيب محفوظ يقول إن الإنسان قد يسير في الطريق طول حياته دون أن يصل إلى أي مكان.

وفي “حضرة المحترم” نرى صورة أخرى من صور الضياع. ““عثمان بيومي”، الموظف الطموح، يجعل من الوظيفة معبدًا يعبد فيه السلطة والترقي. يعيش من أجل الحلم بالوصول إلى منصب المدير العام، ويضحي بكل شيء في سبيله: الحب، والصداقة، والإنسانية. وعندما يحقق الحلم أخيرًا، يكتشف أنه على أبواب الموت. هنا يتجسد العبث في أصفى صوره: أن يصل الإنسان إلى غايته لحظة فقدانه للحياة نفسها.

ثانيًا: البنية الرمزية

تمثل هذه الروايات مرحلة من تطور محفوظ نحو الرمزية الوجودية. فالعناوين نفسها تكشف عن عمق الدلالة:

– “اللص” و”الكلاب” رمزان للثائر والمجتمع الذي يطارده.

– “الطريق” رمز للحياة بكل ما فيها من بحث وتيه.

– “حضرة المحترم” رمز للمجتمع البيروقراطي الذي يقيس الإنسان بمرتبته لا بإنسانيته.

فالرمز عند محفوظ لا ينفصل عن الواقع، بل ينبع منه؛ إذ إن الشخصيات تتحرك في بيئة مصرية مألوفة، لكنها تحمل أبعادًا كونية. “سعيد مهران” يمكن أن يكون أي إنسان ثائر على الظلم، و”صابر رحمة” يمكن أن يكون أي تائه يبحث عن معنى، و”عثمان بيومي” هو صورة الإنسان الذي تبتلعه المكاتب والمناصب حتى يفقد ذاته. بهذا الأسلوب يمزج محفوظ بين الواقعية والرمزية؛ ليجعل من أبطاله نماذج بشرية شاملة تتجاوز حدود الزمان والمكان.

ثالثًا: الزمن والسرد

في هذه الروايات، لا يتحرك الزمن خطيًا، بل يدور في حلقة مغلقة تعيد الأحداث إلى نقطة البداية. “سعيد” يبدأ خروجه من السجن وينتهي بالسجن الأبدي في الموت. “صابر” يبدأ رحلته في المجهول وينتهي في المجهول ذاته. “عثمان” يبدأ موظفًا بسيطًا وينتهي مديرًا عامًا، لكن موته يجعل النهاية شبيهة بالبداية. الزمن هنا ليس وسيلة لتطور الأحداث فحسب، بل هو رمز للعبث والدوام المأساوي للحياة.

كما يتنوع أسلوب السرد بين الراوي العليم والمونولوج الداخلي؛ مما يكشف عن التغير النفسي للشخصيات. ففي اللص والكلاب يكثر الحوار الداخلي، كأن “سعيد مهران” يعيش حربًا بين ضميره وغضبه. وفي الطريق، تنساب تأملات “صابر” بين الوعي واللاوعي، ليصبح السرد مرآة لتشتته الداخلي. أما في حضرة المحترم، فيطغى السرد الرتيب المنظم، الذي يعكس انضباط البطل الشكلي وجفاف مشاعره. كل رواية، إذن، تمتلك إيقاعًا سرديًا يناسب طبيعة بطلها.

رابعًا: البعد الاجتماعي

رغم أن هذه الروايات تطرح قضايا فلسفية، فإنها تنبع من واقع اجتماعي محدد وواضح ومعيش؛ ففي “اللص والكلاب” نلمس خيبة الأمل بعد ثورة يوليو، حين تحول الحلم بالعدالة إلى نظام يطارد أبناءه. محفوظ يرسم من خلال “سعيد مهران” صورة لجيلٍ ثائر اصطدم بفساد الواقع؛ وفي “الطريق”، نجد انعكاسًا لفترة الستينيات، حين فقد الإنسان المصري يقينه بالرموز القديمة، فبدأ يبحث عن أب جديد، وعن سلطة روحية أو سياسية تمنحه الأمان؛ أما في حضرة المحترم، فتظهر آثار التحولات الاقتصادية والاجتماعية في السبعينيات، حيث طغت المادة على القيم، وتحول العمل إلى غاية بحد ذاته، والوظيفة إلى معيار للكرامة. وهكذا تتحول الروايات الثلاث إلى مرآة لتغير المجتمع المصري عبر عقود متتالية، بينما تبقى معاناة الإنسان واحدة.

خامسًا: المرأة بوصفها رمزًا للحلم الضائع

المرأة في روايات محفوظ ليست مجرد شخصية جانبية، بل هي رمز للحلم أو الخلاص المفقود؛ ففي اللص والكلاب، تتجسد المرأة في صورتين متناقضتين: “نبوية” الخائنة التي تُمثّل الانهيار الأخلاقي، و”نور” التي تمثل الحنان والأمل، لكنها لا تنقذ البطل في النهاية. وفي “الطريق”، تظهر “كريمة” رمزًا للجسد والمصلحة، و”فردوس” رمزًا للروح والنقاء، وكلاهما يمران في حياة صابر دون أن يحققا له السلام الداخلي؛ و”في حضرة المحترم”، تمر النساء في حياة عثمان بيومي كظلال عابرة، يعاملهم كوسائل لا كغايات؛ مما يعكس تحجر مشاعره وانفصاله عن الحياة.

هكذا تصبح المرأة عند محفوظ مرآة تكشف عمق أزمة الرجل، فهي رمز للحب المستحيل والصفاء المفقود في عالم يسيطر عليه الطموح والمادية.

سادسًا: النهاية والمصير

تتلاقى الروايات الثلاث في نهايات مأساوية تؤكد فكرة العجز الإنساني أمام القدر، وتمثل -في الوقت ذاته- ثلاثية غير معلنة في أدب نجيب محفوظ؛ فهي ثلاث مراحل من رحلة الإنسان بحثا عن الحقيقة.

وفي هذه الثلاثية لا يقدم محفوظ دروسًا أخلاقية أو وعظية، بل يترك القارئ أمام سؤال وجودي مفتوح: هل يمكن للإنسان أن يجد المعنى في عالم لا منطق فيه؟ وهل الطريق إلى الخلاص يمر بالتمرد، أم بالطاعة، أم بالسعي الدؤوب نحو النجاح؟ الإجابة، كما يوحي محفوظ، ليست في الخارج بل في الداخل، في وعي الإنسان بحدوده وضعفه وإمكاناته.

هذه الروايات تكشف عن عبقرية محفوظ في مزج الواقعية بالرمزية، والفكر بالفن؛ لتصبح أعماله شهادة على رحلة الإنسان الأبدي بين الحلم والخيبة. ورغم اختلاف النهايات، فإن الخيط المشترك بينها هو أن الخلاص لا يتحقق بالهروب ولا بالانصياع، بل بالوعي والصدق مع الذات.

هكذا يظل محفوظ في هذه الأعمال فيلسوفًا للأدب العربي، يكتب عن الواقع لكنه ينفذ إلى ما وراءه، ليضع القارئ أمام مرآة نفسه، ويجعل من الرواية سؤالًا مفتوحًا عن معنى الحياة.

إنها روايات لا تُقرأ للمتعة فقط، بل للتأمل في مصير الإنسان المعاصر، الذي يسير في “الطريق” بين “اللص والكلاب”؛ سعيًا لأن يكون “حضرة المحترم”، لكنه لا يجد إلا ذاته الضائعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى