فن وثقافة

د. أيمن صابر سعيد يكتب: أمل دنقل وجابر عصفور والقومية الشعرية

أمل دنقل وجابر عصفور والقومية الشعرية

ينطلق الشاعر في شعره من منظورات مختلفة، بعضها نابع من الواقع ومعبر عنه كما هو، دون تجميل أو زيف، فيكون شعره صورة طبق الأصل، والكلمات هي الصورة المقابلة للواقع المعيش، وبعضهم يعيش في المدينة الفاضلة المتخيلة، والتي يحقق فيها الشاعر الحالم رؤيته وطموحاته وأمنياته، بالتجميل والتغيير والتخييل، فما يعجز عن تحقيقه في الواقع يحققه في الخيال، صورة من صور الهروب والتخفي محفوفة بالأمل والتمني، وبعضهم الآخر حين نسأله يقول ما يأتي على ذهني ويخالط وجداني أقوله، وبعضهم يتخذه حرفة فيقول ما يطلب مني أعده، فهذا أكل عيش، وأسمع من أشخاص كثيرين يقولون طلب مني أن أجهز كلمات في موضوع كذا، فهو موضوع الساعة أو هذا ما يناسب الواقع الآن، وشتان بين الشاعر صاحب القضية والرؤية وهموم مجتمعه وبين من يكتب ما يطلب منه.

وشاعرنا أمل دنقل نموذج للشاعر المهموم بقضايا مجتمعه، والذي يحيا بينهم ويحلم بتحقيق حلمهم، وكانت فكرة القومية تسيطر في ذلك الزمان على العقول والأفئدة، وطن عربي واحد، هم واحد، ولكن كيف ينقل الشاعر هذا الحلم إلى كلماته وأبياته؟ خاصة أن الأمر ليس مجرد كلمات وعبارات ولكن الأمر يتعلق بقناعات الشاعر، وصدق مشاعره، فالشاعر الحق هو القلب النابض لمجتمعه.

ويرى الدكتور جابر عصفور تحقيق هذا الأمر من خلال الأقنعة التي تعددت في شعر أمل دنقل فيقول:”واستمرت الأقنعة في قصائد أمل دنقل ودواوينه اللاحقة تؤكد البعد القومي لشعره، وتؤكد صوت المواطن العربي البسيط الذي يجسد القناع التراثي، في شعر أمل، همومه وتطلعاته وأحلامه، وتجاوب الصوت التراثي في «فقرات من كتاب الموتى» مع القناع الذي انطوت عليه قصيدة «الحداد يليق بقطر الندى» في الديوان الثاني «تعليق على ما حدث»، وتجاوبت أقنعة الديوان الثاني مع «أوراق أبي نواس»، و«رسوم في بهو عربي» في الديوان الثالث «العهد الآتي»؛ حيث الإفادة من التراث الديني الإنساني في تأكيد معنى «العهد الآتي» الذي يحل محل «العهد القديم»، وتتجاوب أقنعة الديوان الثالث مع أقنعة الديوان الرابع الذي غدا كله أقنعة مستعارة من سيرة «المهلهل» أخي «كليب» المقتول…فنشر القصيدة الأولى بعنوان «لا تصالح» والثانية بعنوان «أقوال اليمامة»، وقد احتلت القصيدة الأولى مكانة تعلو على المكانة التي احتلتها قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»؛ وذلك لارتباطها بتجسيد موقف عربي قومي من الصلح مع العدو الإسرائيلي، وظلت القصيدة منذ أن نشرت، معلقة من المعلقات القومية التي يتناشدها الباحثون عن الكرامة الوطنية، وتقوم القصيدة على عشر وصايا؛ كأنها معارضة موازية للوصايا العشر التي خلفتها الديانة الموسوية، وهي وصايا تؤكد ضرورة الحفاظ على الحق العربي، وعدم الصلح مع العدو الغادر، وتأكيد معنى الثأر الذي هو ثأر جيل فجيل”.

وهذا البعد القومي الذي يتبناه الشاعر كأبناء جيله ـفي ذلك الوقت- هو ما يسيطر على فكره، ويتحكم في دفته، فيخرج لنا حلما جميلا في صورة كلمات عذبة متسلسلة يسلم بعضها بعضا، تماما كما يرى أن القضية يتسلمها جيلا بعد جيل، ميراث الثأر الذي لا ولن ينتهي، فالدم العرب الذي يسيل في أي بلد هو ثأر مشترك بين البلاد الأخرى، لا مفر منه ولا محيص، مهما رأينا من خذلان أو انكسار أو هوان، في بعض الأوقات العصبية، إلا أن هذه الحقيقة لا تقبل المساومة أو التنازل ولا المهادنة، وهو ما كان حاضرا في قصائد أمل دنقل بقوة:

لا تصالح على الدم.. حتى بدم!

لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟

……………..

إنه ليس ثأرك وحدك،

لكنه ثأر جيلٍ فجيل

وغدًا..

سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،

يوقد النار شاملةً،

يطلب الثأرَ،

يستولد الحقَّ،

من أَضْلُع المستحيل

لا تصالح

ولو قيل إن التصالح حيلة

إنه الثأرُ

تبهتُ شعلته في الضلوع..

إذا ما توالت عليها الفصول..

ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)

فوق الجباهِ الذليلة!

إن القارئ المتأمل لكلمات الشاعر يجد هذه الصرخة المدوية التي تنبع من نفس مهمومة متعبة مثقلة بقضايا الوطن العربي، نفس تحفظ العهد، وتنفذ الوعد، لا تعرف التكاسل والاستسلام، ولا تقبل الضيم، لا تفرق بين من يعيش في الشمال ومن يحيا في الجنوب، نفس لا تعرف الأنانية والفردية، ولا تعترف إلا بالقومية ورابطة الدم العربي القومي، فهو يستدعي الماضي لإغاثة الحاضر، ويحذر من استمرارها في المستقبل، حالة الرفض والمقاومة هي ما يحيا فيها الشاعر، إلى أن تظهر بشائرالأمل في خطوات الحلم الذي سيظل قيد البحث والسعي الدؤوب، حتى يتحقق في الواقع القريب أو البعيد، في هذا الجيل أو في الأجيال القادمة، من أضلع المستحيل؛ فالشاعر يحيا ويموت بين الحلم والرؤية والاستشراف، حتى وإن كان وحيدا لا يشاركه أحد، وهو في هذه الحالة يعيش حالة اليأس التي قد تكون سبيله إلى النهاية- الموت البطيء، يقول يوسف إدريس في رثائه لأمل دنقل “يموت الشاعر حين ييأس من أن يشاركه أحد الرؤية، تمام الرؤية”.

ومن الملامح الشعرية التي يرصدها الدكتور جابر عصفور في شعره القومي “ما يتميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة، وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد هما الخاصيتان البلاغيتان الأثيرتان في هذا الشعر، التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة، والمفارقة التي تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة، إن قارئ أمل دنقل لن ينسى المفارقة التي تنبثق حين تتجاوز الأشياء بغتة، ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، وموجع نقرأ معه:

لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا

لا تسألي… أبدا

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثير ولكن لا أرى أحدًا”.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى