د.أيمن صابر سعيد يكتب: بين الخيانة والاغتراب: قراءة في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ

بين الخيانة والاغتراب: قراءة في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ
تُعد رواية “اللص والكلاب”، التي نشرها نجيب محفوظ عام 1961، من أبرز الأعمال التي تجسد المرحلة الواقعية الجديدة في الأدب العربي؛ حيث جمعت بين التحليل الاجتماعي والنفسي، وبين الرمزية التي تكشف صراع الفرد مع مجتمع مأزوم. ومن ثم فإن محفوظا لم يكتب قصة لص يطارده البوليس فحسب، بل رسم لوحة مأساوية لإنسان يواجه الخيانة والخذلان والهوان، وينتهي ضحية أوهامه وأوهام عصره وسعيه وراء سراب متخيل.
وإذا ما تأملنا عناصر الرواية وأحداثها وحبكتها ونهايتها، فنجد بداية أنها تقوم على شخصية “سعيد مهران”، الذي يخرج من السجن بعد أربع سنوات ليجد حياته قد انهارت وانتهت، ولم يبق لها أي فائدة؛ حيث فقد زوجته “نبوية” التي خانته مع صديقه “عليش”، وفقد ابنته الصغيرة التي انتُزعت منه، وحتى مثله الأعلى “رفعت” تخلى عن الثورة والتحريض واختار الكتابة الباردة. ومما يعبر عن ذلك قوله في لحظة يأس: “الكل خانوني… حتى ابنتي الصغيرة”. هذا الوعي بالخيانة والدافع الداخلي ورؤيته للأخرين بهذه البشاعة هو الشرارة التي تدفعه إلى مسار انتقامي محكوم بالفشل.
وقد كتبت الشخصيات الأخرى بدقة رمزية دلالية موحية بمعان محددة؛ فمثلا “نبوية” تجسد الخيانة الأسرية، و”عليش” يمثل انتهازية الوصوليين، بينما “نور” -فتاة الليل- تظهر كضوء إنساني وحيد فريد في حياة سعيد؛ إذ تقول له: “أنا وحدي معك، مهما كان مصيرك”. أما الشيخ الجنيدي فيمثل طريق الخلاص الروحي الذي يرفضه سعيد؛ لأنه لا يتفق مع نزوعه الانتقامي الذي أصر عليه، وجعله هدفا لن يحيد عنه.
وإذا ما تأملنا في العنوان نفسه “اللص والكلاب” نجده مشحونا بالرموز؛ فالـ “اللص” هو “سعيد” الذي يرى نفسه صاحب حق، أما “الكلاب” فهم أعداؤه من المخبرين والشرطة والخونة، لكنه في الحقيقة رمز للاغتراب الإنساني في مجتمع لم يحقق العدالة التي بشّر بها. يقول “سعيد” مخاطبًا نفسه: “أهذه هي الثورة التي ضحينا من أجلها؟”. هذا التساؤل يكشف عن خيبة أمل جيل بأكمله.
وأما البعد النفسي؛ فنجد اعتماد محفوظ في الرواية على تيار الوعي والمونولوج الداخلي لإظهار تمزقات سعيد. فنسمعه يخاطب ابنته الغائبة: “أنا أبوك يا بنتي… هل نسيتني؟”. هذه الأصوات الداخلية تجعل القارئ يتماهى مع عذابه وألمه، وربما يتعاطف معه ويبرر أفعاله، فيرى فيه إنسانًا تائهًا أكثر من كونه مجرمًا. هنا يتجلى البعد النفسي العميق: صراع بين حلم بالعدالة وخيانة الواقع.
وأما الزمن في الرواية فهو قصير، لكنه في الوقت ذاته مكثف بالأحداث: من لحظة خروج سعيد من السجن إلى مقتله في النهاية. هذا الزمن الضيق يعكس ضيق الأفق أمام البطل. أما المكان فهو “القاهرة” بأزقتها وشوارعها التي تحولت إلى متاهة خانقة، حتى الجبل الذي يلوذ به “سعيد” يصبح سجنًا جديدًا؛ إذ يقول في نهايته: “حتى الجبل خانني”. المكان هنا شريك أساسي في الدلالة، يكشف عن مأساة الاغتراب والعزلة والوحدة بمعانيها المتعددة.
وقد حاول محفوظ التركيز على “ثنائية الفشل والاغتراب”؛ حيث تفشل جميع محاولات سعيد: في الانتقام من عليش، وفي استعادة ابنته، وفي كسب الجماهير إلى صفه، وفي الحصول على السكينة الروحية، وينتهي به الحال مطارَدًا كالحيوان الجريح، مقتولاً بلا بطولة، أو بطولة وهمية؛ فهوم بطل من ورق. هذا الفشل حين نتسع بالدائرة يمكننا أن نقول إن الرواية تعكس انهيار مشروع اجتماعي كامل، وليس سقوط فرد فقط. وهنا تكمن القيمة النقدية للرواية؛ فهي إدانة لزيف الشعارات السياسية التي لم تحقق العدالة، بل أنجبت خيبات جديدة ومصائب بلا حدود.
وأما عن لغة محفوظ في الرواية، فهي واقعية حين يرسم الحوارات، لكنها ترتقي إلى مستوى شعري أحيانا حين يكشف عن الداخل النفسي. مثلاً في وصف شعوره بعد الخيانة يقول سعيد: “الظلام حالك… كل الأبواب مغلقة”. هذه الصور الاستعارية تمنح الرواية عمقًا فنيًا، وتفتحها لقراءات متعددة ومستويات مختلفة: اجتماعية، ونفسية، وفلسفية…إلخ.
وقد تنوعت آراء النقاد في رواية “اللص والكلاب”؛ فيرى عدد من النقاد أن “نجيب محفوظ” انتقل من الواقعية التقليدية التي ميّزت “الثلاثية” إلى الواقعية الرمزية؛ حيث لم يعد يكتفي بعرض الواقع كما هو، بل صار يوظف الرمز ليعكس أزمات المجتمع، ويرى الناقد “غالي شكري” أن الرواية تمثل “صرخة ضد الخيانة والفساد”، وأن سعيد مهران ليس مجرد لص، بل هو رمز لإنسان مسحوق يبحث عن العدالة في مجتمع مضطرب، ويرى “لويس عوض” أن الرواية تُمثّل تجربة ناضجة في الغوص في أعماق النفس البشرية، بفضل استخدام محفوظ لتقنية تيار الوعي والمونولوج الداخلي، وهو ما جعل القارئ يتماهى مع مأساة سعيد بدلا من أن يرفضه بوصفه لصا عاديا، يمكننا نبذه والابتعاد عنه وتهميشه.
وإذا ما وضعنا رواية “اللص والكلاب” في إطار البحث عن قيمتها الفنية والفكرية، فإنها تتجلى في كونها جسّدت انتقال محفوظ من الواقعية المباشرة إلى الواقعية الرمزية التي ظهرت في أعماله اللاحقة. وهي نص يطرح سؤالاً وجوديًا: هل العنف طريق للتغيير، أم ًنه يؤدي إلى عزلة وفناء؟ ومن خلال سعيد مهران قدّم محفوظ صورة للبطل المأزوم الذي ينهزم أمام خيانة المجتمع وأوهامه الذاتية معًا؛ فهو وجود كالعدم، وهروب من الواقع إلى السراب، ومن ثم فهي عمل أدبي يحمل أبعادًا إنسانية وفكرية عميقة. فـ “مأساة سعيد مهران” تلخص خيبة الإنسان في مواجهة واقع متآمر مأزوم، وكذلك تؤكد أن البطولة الفردية في غياب عدالة اجتماعية حقيقية تتحول إلى وهم قاتل. وبذا نستطيع أن نقول إن “نجيب محفوظ” نجح في أن يجعل من نصه مرآة لزمنه، بل ومرآة لكل زمان ومكان، وصرخة عالية مدوية ضد الخيانة والاغتراب؛ مما يمنح الرواية قيمة أدبية تتجاوز زمن كتابتها، وتتكرر أحداثها مهما تغيرت الشخصيات والأزمنة والأمكنة.