حمدي كوكب يكتب: المسرح في الشعر الجاهلي.. غياب البنية وحضور العناصر

حمدي كوكب يكتب: المسرح في الشعر الجاهلي.. غياب البنية وحضور العناصر، لم يعرفوا العرب في تلك الحقبة التاريخية المسرح بمعناه المتعارف عليه كفن مستقل، ذي بنية واضحة، يعتمد على مكان مخصص للعرض، وحدث يُعرض أمام جمهور، ونص مكتوب يحوي حوارات متعددة، وصراعًا دراميًا، وذروة، ثم حل؛ فالمسرح ككيان فني متكامل لم يكن جزءًا من نسيج الحياة الثقافية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
لكن، عندما نُعمق التأمل في البنية الداخلية للقصيدة الجاهلية، ونُحلل بتمعن الطريقة التي تُقدم بها المشاهد الشعرية، ونستمع إلى حوارية بعض الأبيات التي تضج بالحياة، نجد أنه بالفعل بذور مسرحية كامنة في هذا الشعر العريق، فقد حملت القصيدة الجاهلية في طياتها عناصر درامية جوهرية، وإن لم تتجسد في بناء مسرحي فعلي ومنظم، فالمسرح في الشعر الجاهلي لم يمثل غيابًا كليًا ومطلقًا، بل إنه تسرب خفية عبر الظلال واللمحات، ليترك بصماته الخفية في الروح الدرامية الكامنة في القصيدة.
وإن المسرح، بمفهومه الشامل الذي يضم المكان المخصص للعرض، والحدث التمثيلي الذي يُقدم أمام جمهور، والنص المكتوب الذي يتضمن حوارات وصراعات وتطورًا دراميًا يصل إلى ذروة ثم ينتهي بحل، لم يكن له وجود ملموس في البيئة الجاهلية، وهذه الحقيقة ليست مجرد غياب عارض، بل هي نتيجة لأسباب جوهرية عميقة تتعلق بطبيعة الحياة والمجتمع آنذاك.
فالمجتمع الجاهلي كان مجتمعًا بدويًا غالبًا، يتسم بالترحال وعدم الاستقرار، وكانت القبائل تتنقل باستمرار بحثًا عن الماء والكلأ، مما أدى إلى غياب المدن والمجتمعات المستقرة بالمعنى الحضري الذي ينتج جمهورًا دائمًا ومتفرغًا للفنون، أو يبني مباني خاصة للعرض؛ فالمسرح يحتاج إلى استقرار ديموغرافي واقتصادي يسمح بوجود وقت فراغ وترف ثقافي.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الثقافة الجاهلية ثقافة شفهية بامتياز، حيث كانت غلبة القول الشفهي لا الكتابي هي السائدة، وكان الشعر يُحفظ ويُروى ويُتداول شفويًا، ولم تكن هناك حاجة ماسة لتدوين النصوص المسرحية الطويلة والمعقدة، أو لإنشاء مكتبات لحفظها، وهذه الشفوية كانت تعزز من فن الخطابة والإنشاد الشعري المباشر، لا فنون الأداء المكتوبة والمعقدة كالمسرح.
كذلك، فإن طبيعة الحياة البدوية المتصلة بالطبيعة، والمعتمدة على النضال اليومي من أجل البقاء، لم تكن تحتمل الطقس المسرحي الذي يتطلب التزامًا بزمن ومكان محددين، ولا تسمح بترف “تخزين الزمن” في عمل فني يُعاد عرضه مرارًا، فالحياة كانت سريعة ومتغيرة، والشعر كان انعكاسًا فوريًا لهذه اللحظة الراهنة، لا بناءً دراميًا متكاملاً يتطلب تخطيطًا وتنفيذًا معقدًا.
ولهذه الأسباب الجوهرية، من الطبيعي أننا لم نشهد نشأة “مسرح عربي جاهلي” بالمعنى الفني الكامل، كما نشأ المسرح الإغريقي القديم مثلاً، والذي كان جزءًا لا يتجزأ من طقوسهم الدينية والاجتماعية في المدن المستقرة.
وعلى الرغم من الغياب التام للمسرح كفن مستقل، وبنية قائمة بذاتها، إلا أننا عندما نغوص في أعماق الشعر الجاهلي، نكتشف أن روح المسرح، أو على الأقل بعض من عناصره الأولية، كانت حاضرة بقوة، وإن كانت كامنة وغير منظمة ضمن قالب فني محدد، فالشاعر الجاهلي، بقريحته الفذة وقدرته الفائقة على التصوير، لم يكن يكتب مجرد أبيات وصفية جامدة، بل كان يرسم لوحات حية، وينقل مواقف مليئة بالحركة والانفعال.
وإننا نجد في هذا الشعر مشاهد حية تُروى وكأنها تُمثَّل أمامنا، فالشاعر لا يكتفي بالوصف السردي البارد، بل يدعو المتلقي ليعيش اللحظة معه، ليصبح جزءًا من المشهد، فالقصيدة غالبًا ما تبدأ باستدعاء لموقف أو حدث، وكأنها تفتتح ستارة على خشبة مسرح خِفية.
والأكثر إثارة للانتباه هو وجود حوارات بين الشاعر وأطراف أخرى، وهذه الأطراف قد تكون حبيبته التي يتوجه إليها بالنداء والعتاب، أو عدوه الذي ينازعه الفخر والهجاء، أو حتى ناقته التي يُناجيها ويصف لها معاناته في الصحراء، أو الطيف الذي يزوره في المنام.
وهذه الحوارات، وإن كانت في الغالب أحادية الجانب أو “مفترضة” من جانب الشاعر، إلا أنها تُضفي على النص بعدًا صوتيًا وتفاعليًا يقارب الحوار المسرحي، فالتفاعل الصوتي بين الشاعر والآخر، سواء كان إنسانًا أو جمادًا أو طيفًا، يخلق إحساسًا بالحضور والتفاعل الذي هو جوهر الدراما.
وليس هذا فحسب، بل إن القصيدة الجاهلية تزخر بـمواجهات درامية تُروى بإيقاع درامي واضح، سواء كانت هذه المواجهات معركة حامية الوطيس، أو لحظة عتاب مؤلمة بين حبيبين، أو تحديًا بين فارس وخصمه، فإن الشاعر ينقلها بإحساس عالٍ بالتوتر، والتصاعد، والذروة. وكأن الشاعر لم يكن يكتب مسرحًا بالمعنى الحرفي، لكنه كان يؤدي “مشهدًا شعريًا” عفويًا، يجسد فيه انفعالاته وتجاربه، فوق رمال القبيلة وتحت سماء الصحراء، مستخدمًا كلماته كأدوات تمثيلية تُثير الخيال وتُلهب العواطف.
ويمكننا أن ننظر إلى بعض القصائد بوصفها مونودراما (حديث الشاعر مع نفسه أمام جمهور افتراضي)، أو مشهدًا تمثيليًا يُبنى من استدعاء الذكريات، ووصف الحركات، والانتقال من حالة إلى أخرى، بل إن بعض القصائد تبدأ بمشهد، ثم تسير في تسلسل درامي: من النداء، إلى الحنين، إلى الفخر، إلى الوعد أو الوعيد.
وعلى سبيل المثال أشهر بيوت الشعر الجاهلي:
“قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ” لامرئ القيس.
هنا، الشاعر لا يبدأ القصيدة بوصف مجرد، بل يبدأ بدعوة مباشرة لمشاركته الحزن والألم، فيخاطب “صديقًا” أو “الرفيق الشعري” المعتاد في القصيدة الجاهلية، وكأنه يوجه نداءً لبدء مشهد، هذه الافتتاحية ليست مجرد جملة، بل هي افتتاحية مشهد درامي.
وفي هذا المشهد المبدئي، تتجلى بوضوح العناصر المسرحية: هناك شخصيات (الشاعر وصاحبه الذي يُناجيه، وإن كان دوره صامتًا)، وهناك زمن مضى (ذكرى حبيب ومنزل) يُستعاد بمرارة، وهناك مكان مهجور (أطلال الديار) يُشكل خلفية للمشهد. ثم تبدأ الحركة والأفعال: “الوقوف”، “البكاء”، “التذكّر”. وتتحول القصيدة في هذه اللحظة إلى ما يشبه مشهد درامي داخلي عميق، يعكس صراعًا نفسيًا بين الحاضر الغائب والماضي الباقي. إنها ليست قصة تُروى، بل حالة شعورية تُعاش وتُجسد أمام السامع، أقرب ما تكون إلى مونودراما شعرية يختبر فيها الشاعر عواطفه ويعرضها على الملأ.
وتتضح الروح الدرامية في الشعر الجاهلي بشكل جلي في أغراض شعرية محددة، كالحماسة والرثاء، حيث تُصبح القصيدة ساحة لتجسيد الصراع الإنساني والعواطف المتأججة.
ففي قصائد الحماسة، يتحول الشاعر إلى مخرج وممثل في آن واحد، يروي تفاصيل المعركة وكأنها تُعرض أمامه على خشبة مسرح حقيقية. فتجد القصيدة هنا تطرح تساؤلات فعلية ومباشرة أو ضمنية تصف المشهد الدامي: “مَن قَاتَل؟”، “مَن طَعن؟”، “مَن صَرخ؟”، “مَن فَرّ؟”. فالأفعال سريعة، متلاحقة، وتصف تحركات الشخصيات بوضوح، كأنها تعليمات إخراجية. والشاعر لا يكتفي بالإخبار عن النصر أو الهزيمة، بل يُجسد اللحظات الفاصلة، والأصوات المدوية، والحركات العنيفة، مما يخلق إحساسًا بالمشاركة والتفاعل مع الأحداث، وكأن المتلقي شاهد عيان على وقائع المعركة. وهذا التصوير الحسي الدقيق يرفع من مستوى القصيدة من مجرد سرد إلى تجسيد حي مليء بالتوتر والصراع.
أما في الرثاء، فإن القصيدة تنقلب إلى مشهد مأساوي بامتياز، فيفيض بالعواطف الجياشة والألم الإنساني العميق. وهنا، لا يكتفي الشاعر بتعداد مناقب الفقيد، بل ينقل لنا أجواء الحداد، بما فيها من “صراخ” و”ندب” وألم لاذع، واستدعاء لـ”ذكريات” الفقيد بمرارة. وفي هذه القصائد، تظهر ما يشبه العناصر الأساسية للبنية الدرامية.ومن هذه العناصر "العقدة الدرامية" والتي تتجلى في الحدث الجلل، وهو "الموت" المفاجئ للشخص المرثي، أو أحيانًا "الخيانة" أو الظلم الذي أدى إلى نهايته. وهذه العقدة هي المحرك الأساسي للألم والانفعال.
ومنها أيضًا “الذروة” وتتمثل في “الانفجار العاطفي” الذي يبلغه الشاعر، من بكاء وعويل وحسرة شديدة، وتعبير عن أقصى درجات الألم والفقدان، وهذه اللحظة هي أوج المشاعر في القصيدة.ومن ثم "ختام المشهد"، وقد يكون بـ"العبرة" من المصاب، أو "الندم" على فقدان الفقيد، أو بـ"الثأر" إذا كان الموت نتيجة لعدوان. وهذا الختام يضفي نوعًا من الإغلاق على المشهد المأساوي، وإن لم يكن حلًا بالمعنى المسرحي المباشر، بل هو خاتمة للشعور.
وهذه الأغراض الشعرية تكشف عن قدرة الشاعر الجاهلي على تحويل الكلمات إلى صور متحركة ومشاهد حية، تُثير المشاعر وتُجسد الصراع الإنساني في أبهى صوره، مما يؤكد حضور الروح الدرامية وإن غابت البنية المسرحية المتكاملة.
وعلى الرغم من هذه العناصر المسرحية البارزة التي ذكرناها، والتي تُبرز روحًا درامية كامنة في الشعر الجاهلي، إلا أن هذا الشعر ظل بعيدًا عن تحقيق مفهوم المسرح الحقيقي بمعناه الفني الكامل.
وهناك عدة أسباب جوهرية تمنع القصيدة الجاهلية من أن تُصنف كعمل مسرحي متكامل، وتُظهر حدودًا واضحة لهذا الحضور الدرامي: حيث تخلو من تعدد الشخصيات الحوارية فعليًا، ففي المسرح، تتفاعل شخصيات متعددة، كل منها له صوته الخاص، ومنظوره، ودوره في تطور الأحداث. أما في الشعر الجاهلي، فإن الصوت الغالب هو صوت الشاعر الأوحد. والحوارات غالبًا ما تكون "مفترضة" أو "مونولوجات" موجهة إلى طرف صامت أو وهمي (الصاحب، الناقة، الطيف، الحبيبة). ولا يوجد تبادل حقيقي للأدوار، أو صراع حواري بين شخصيات مختلفة، والشاعر هو البطل الوحيد، والراوي، والمخرج، والممثل. كما تخلو القصيدة من تطور الشخصيات عبر الزمن، فالشخصيات المسرحية تتطور وتنمو وتتغير استجابةً للأحداث والصراعات الداخلية والخارجية، أما الشخصيات في الشعر الجاهلي، بما فيها الشاعر نفسه، فغالبًا ما تظل ثابتة في جوهرها خلال القصيدة، وتعكس حالة شعورية أو موقفًا معينًا دون تطور عميق في بنيتها النفسية أو الفكرية على مدار القصيدة الواحدة. ولا تحمل القصيدة صراعًا داخليًا معقدًا كما في المسرح، فالمسرح غالبًا ما يتعمق في الصراعات النفسية والاجتماعية المعقدة التي تدور داخل الشخصيات وبينها. بينما يميل الشعر الجاهلي إلى التعبير عن المشاعر المباشرة والصراعات الخارجية الواضحة (مثل: صراع القبائل، أو الفخر والذم)، دون الغوص في تعقيدات النفس البشرية أو التناقضات الداخلية العميقة. والشعر الجاهلي ينتمي إلى الذات الأحادية، لا إلى التفاعل المسرحي الجماعي، فجوهر المسرح هو التفاعل الجماعي، سواء بين الممثلين على الخشبة، أو بين العمل الفني والجمهور. أما الشعر الجاهلي فينبع من الذات الأحادية للشاعر، ويعبر عن رؤيته وتجربته الشخصية، حتى وإن كان يتوجه إلى جمهور أو يتفاعل مع عناصر خارجية. وهذا الطابع الذاتي يُبقي القصيدة في إطار فردي، بعيدًا عن البنية التفاعلية للمسرح.
ويمكن القول إن المسرح غائب كبنية متكاملة ومنظمة في الشعر الجاهلي، بكل ما تحمله هذه البنية من قواعد وأصول وشخصيات متفاعلة وتطور درامي؛ لكنه حاضر كنبض، وكصورة حية، وكظلّ من ظلال الدراما يلوح في الأفق الشعري، إنه حضور روحي أكثر منه بنيوي، حضور في الخيال والتصوير والانفعال، لا في التنظيم والعرض.
ولقد كان الجاهليون أمة قوالة، تمتلك حسًا فنيًا مرهفًا وقدرة مدهشة على تصوير الحياة والانفعالات البشرية بصدق وعمق، ولم يعرفوا المسرح ككيان فني قائم بذاته، لكنهم امتلكوا الروح الدرامية الكامنة في صميم الوجود الإنساني: في الحكاية التي يروونها عن بطولاتهم وأيامهم، وفي المواجهة والشجاعة مع الأعداء أو الظروف، وفي الانفعال الصادق أمام الفرح والحزن، الحب والفراق.
وكانت القصيدة، عند بعض الشعراء الجاهليين، أشبه بـ”مشهد تمثيلي شعري” لا ينقصه سوى الخشبة المادية والجمهور المتبلور والرداء الخاص بالممثلين، وكانت الكلمات هي الخشبة، والصوت هو الممثل، والمعاني هي الديكور. والشاعر يجسد الحالة، ويمثل الدور، وينقل الصراع، لكن كل ذلك يحدث في فضاء ذهني، وفي إطار اللغة والصوت. فهو يصف حركة الفارس، وصيحة المقاتل، وعويل الثكلى، وكأنه يُخرج مشهدًا حيًا، لكنه يظل مشهدًا محصورًا داخل إطار القصيدة، لا يتعداه إلى فضاء العرض المسرحي الحقيقي.
ولهذا، فإن الشعر الجاهلي لم يُنتج مسرحًا بمعناه المتعارف عليه، فهو لم يُبنَ ليكون عرضًا تمثيليًا، ولم يُصغ بوعي مسرحي خالص؛ لكنه مَهّد له الطريق، وحمل في طياته بذورًا درامية صامتة، حين رسم صورًا تنبض بالحياة، وتنتظر فقط أن تُعرض يومًا ما على خشبة حقيقية، ولقد كان الشعر الجاهلي هو الوعاء الذي حفظ الروح الدرامية العربية، وهيأها للانطلاق في عصور لاحقة، عندما يتغير الواقع الاجتماعي، وتتطور أشكال الفن، ليخرج الإنسان العربي من حدود القبيلة والبيت الشعري، ويبدأ في تخيّل العالم وتجسيده على خشبة المسرح، بعد أن كان يكتفي بتخييله في بيت الشعر.