فن وثقافة

حمدي فراج كوكب يكتب: القصيدة مساحة للتعبير عن الفلسفة الواقعية للحياة

منذ بزوغ فجر القرن العشرين، ومع تباشير فكر جديد يتغلغل في بنية المجتمع العربي، بدأت تلوح في الأفق إرهاصات تحول عميق في المشهد الشعري. لم يكن الأمر مجرد تعديلات طفيفة أو تحسينات شكلية، بل كان بمثابة رؤية فكرية وجمالية قادتها نخبة من الشعراء الذين حملوا على عاتقهم رسالة التغيير، وارتادوا دروب التجديد، ساعين إلى تحرير الشعر العربي من قيود طالما كبلته، وإعادة ربطه بنبض الحياة المتسارع.

حمدي فراج كوكب يكتب: القصيدة مساحة للتعبير عن الفلسفة الواقعية للحياة

ولقد كانت تلك الحركات الشعرية متتالية، بدأت بمدارس الديوان وأبولو والمهجر، ثم تطورت لاحقًا لتشمل شعراء التفعيلة، وصولًا إلى قصيدة النثر، وكل منها ساهم في إثراء التجربة الشعرية وتوسيع آفاقها، وطرح أسئلة وجودية وجمالية عميقة بقيت تتردد أصداؤها حتى يومنا هذا.

حتى أنهم تساءلوا:
هل يظل الشعر رهين البحر الكامل والطويل؟
هل تُختزل وظيفته في المدح والهجاء؟
أين صوت الإنسان في زحام الفخر والرثاء؟

هذه التساؤلات لم تكن مجرد استفهامات عابرة، بل كانت صرخات مدوية من أرواح تواقة للتحرر، وأقلام عطشى للإبداع، سعت لتجاوز النمطية، والتغلغل إلى أعماق النفس البشرية، متجاوزة السطح إلى الجوهر.
وكانت الخطوة الأولى والأكثر جرأة التي أقدم عليها الشعراء المحدثون هي التخلي عن التقيّد الصارم بالبحور التقليدية، فلطالما كان الوزن العروضي بمثابة قدس الأقداس في الشعر العربي، يُقاس عليه الجودة ويُحكم من خلاله على الأصالة.

لكن هؤلاء الرواد أدركوا أن الإيقاع الحقيقي للقصيدة ينبع من روحها، ومن تدفق المعنى والعاطفة، لا من قالب خارجي جامد يُفرض عليها. ولم يكن الهدف هو هدم الوزن تمامًا، بل إعادة تعريف دوره، ليكون خادمًا للمعنى لا سيده.

ولقد بحثوا عن إيقاع داخلي ينبض في عروق القصيدة، ويتناغم مع تدفق الأفكار والمشاعر، ويُشبه نبضات القلب البشري في تواترها واختلافها.

وتزامنت هذه الآراء في الإيقاع مع كسر جذري لـثنائية الشطر والعجز، التي كانت تمثل الهيكل الأساسي للبيت الشعري التقليدي.

فبدلًا من البيت المكون من شطرين متوازنين، صار النصّ بنيانًا حرًّا، يتمدد ويتقلص، وينمو كما تنمو الفكرة أو الإحساس. ولم يعد الشاعر مقيدًا بعدد كلمات محدد في كل شطر، أو بضرورة إتمام المعنى في بيت واحد، بل صار بوسعه أن يمد السطر ليحتوي فكرة كاملة، أو يقسمه ليُحدث إيقاعًا سريعًا، أو يترك مساحات بيضاء تُعطي القارئ فرصة للتأمل والتخيل. وهذا التحرر منح القصيدة مرونة غير مسبوقة، وجعلها أقرب إلى الموسيقى التي تتبع إلهام الملحن، بلا قواعد صارمة،ولقد أصبحت القصيدة كائنًا حيًا يتنفس، لا بناءً معماريًا جامدًا.

فقد كانالشعر الحديث مثل لوحة فنية تتحرر فيها الألوان من خطوطها التقليدية، لتتدفق بحرية وتتداخل بطريقة تعكس عمق الشعور، فهكذا الشعر يطلق العنان للكلمات لترسم لوحات صوتية ومعنوية، تلامس الروح وتُحرك الوجدان، وهذه التغييرات لم تكن مجرد تجريب شكلي، بل كانت نابعة من قناعة عميقة بأن الشعر، لكي يبقى حيًا ومؤثرًا، يجب أن يتطور مع تطور الحياة، وأن يعكس تعقيدات العصر الحديث وتياراته الفكرية المتغيرة.

ولم يتوقف تجديد الشعراء المحدثين عند الشكل والإيقاع، بل امتد ليشمل موضوعات الشعر نفسها، فبعد أن كان الشعر حكرًا على أغراض محددة كالمدح والهجاء والفخر والرثاء والغزل الوصفي، صار مرآةً للنفس البشرية المعقدة، وساحةً خصبةً لـلأسئلة الكبرى التي تؤرق الإنسان في وجوده،ولم يعد الشاعر مجرد لسان حال قبيلة أو مدَّاح، بل تحول إلى فيلسوف، مفكر، ومراقب للحياة بكل تجلياتها.

ولقد فتحوا الأبواب على مصاريعها لموضوعات لم يكن الشعر العربي التقليدي يعالجها بالعمق المطلوب، فـالاغتراب، بشقيه المكاني والنفسي، صار محورًا أساسيًا، يعكس حالة الإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم سريع التغير، ويشعر فيه بالغربة حتى وهو بين أهله ووطنه.

وكذلك تناول الشعر الحديث التساؤل عن الوجود، ومعناه، وأصبح شغلًا شاغلًا لأقلامهم، متأثرين بالفلسفات الغربية الحديثة، ومحاولين تكييفها مع السياق العربي والإسلامي.

والحبّ في هذا الشعر المعاصر لم يعد مجرد وصف جسدي أو غزل سطحي، بل تحول إلى تجربة إنسانية عميقة، تتخللها آلام الفراق، ومرارة البعد، وعذوبة اللقاء، ليصبح فيه الحبيب رمزًا للوطن، وللحلم، أو للخلاص.

وكذلك الموت، لم يعد مجرد مصير محتوم يُرثى فيه الميت، بل صار مادة للتأمل الفلسفي في معنى الحياة، وزوالها، وفناء كل شيء. أما الحرية، فتجسدت في دعوات التحرر من الاستعمار.

ولقد أصبحت القصيدة مساحة للتعبير عن الفلسفة الواقعية للحياة، عن آلام الإنسان الحقيقية، وأفراحه، وإحباطاته، وصراعاته الداخلية والخارجية، وصار الشاعر يعبر عن تجاربه الشخصية، لكن بروح إنسانية عامة، تجعل القارئ يجد نفسه في كلمات القصيدة، ويتعاطف معها،ولم تعد القصيدة مجرد سرد لأحداث، بل تحولت إلى مساحة للتأمل العميق في طبيعة الوجود، والإنسان، والعلاقات بينهما،وهذا التوسيع في الموضوعات منح الشعر عمقًا وبعدًا فلسفيًا لم يكن موجودًا بنفس القدر من قبل، وجعله أكثر قدرة على التفاعل مع قضايا العصر ومشاكله.

ووصلت حركة التجديد ذروتها مع ظهور قصيدة النثر، التي تُعد بمثابة القطيعة الأكثر وضوحًا مع التقاليد الشعرية السائدة، فقصيدة النثر، كما يوحي اسمها، تتجاوز التفعيلة ذاتها، ولا تلتزم بأي وزن عروضي أو قافية خارجية، إنها تُراهن على عناصر أخرى لخلق تجربتها الشعرية الفريدة، مثل: الصورة، والدهشة، والتكثيف اللغوي.

وفي قصيدة النثر، تصبح الصورة هي العمود الفقري للنص، فالصور البلاغية قوية، وجديدة، ومبتكرة، وتُحرك الخيال وتُثير الدهشة، ويعتمد الشاعر على خلق عوالم بصرية، حسية، وشعورية من خلال انتقاء الكلمات بدقة بالغة، وترتيبها بطريقة غير مألوفة، لتُحدث تأثيرًا عميقًا في نفس القارئ،ولم يعد الوزن هو ما يُعطي القصيدة موسيقاها، بل الجرس الموسيقي العالي الناتج عن تناغم الحروف، وتكرار الأصوات، والجناس الصوتي الذي يخلق تأثيرًا سمعيًا مميزًا،والكلمات نفسها تحمل لحنًا داخليًا، تتدفق بسلاسة وموسيقية، وتشعر الأذن بأنها نغمات تتسرب إلى الروح.

والدهشة هي عنصر آخر حيوي في قصيدة النثر، ويسعى الشاعر إلى مفاجأة القارئ، هي كسر توقعات القارئ، وتقديم رؤى جديدة للعالم من خلال لغة غير تقليدية، وهذا يتحقق عبر استخدام المفارقة، والتناقض، أو المزج بين عناصر غير متجانسة لخلق معنى جديد وغير متوقع، أما التكثيف اللغوي، فيعني القدرة على إيصال أعمق المعاني وأكثرها تعقيدًا بأقل عدد من الكلمات، مستخدمًا الإيحاء والرمز، وترك مساحات واسعة للقارئ ليشارك في بناء المعنى وتأويله.

ولقد كانت قصيدة النثر تجسيدًا حقيقيًا لروح عصر جديد يرفض الجمود، ويُطالب الشعر بأن يكون أكثر اقترابًا من الإنسان، لا من القاموس،فهي تُمثل محاولة للوصول إلى الجواهر الشعرية، بعيدًا عن الزخارف الخارجية، والتركيز على التجربة الشعرية العميقة التي تنبع من الصدق الوجداني والتأمل الشخصي الحقيقي،وفي قصيدة النثر، نجد صرخة وجدانية تلامس القلوب، وتُعبر عن نبض إنساني صادق، متحررة من قيود الوزن والقافية لتنطلق في فضاء المعنى المطلق،وهذا التحول لم يكن سهلاً، وواجه الكثير من النقد والرفض في بداياته، لكنه أثبت مع مرور الوقت قدرته على التعبير عن تعقيدات الحياة المعاصرة بأسلوب فريد ومبتكر.

ومن أبرز ما فعله الشعراء المحدثون هو المزج البارع بين فلسفة الحياة الواقعية والخيال الخصب، وبين الصور البلاغية والمحسنات البديعية،ولم يعد الشعر مجرد كلام جميل يُقال، بل أصبح وسيلة للتعبير عن أحداث الإنسان الحقيقية الواقعية، وعن تجاربه اليومية، وآماله وخيباته، وصراعاته الداخلية والخارجية،ولقد أدرك المعاصرون أن الشعر الحقيقي ينبع من تجربة معاشة، وأن التأمل العميق والنبض الإنسانيّ الصادقٌ ينبعُ من تجربةٍ حقيقيةٍ عاشها الشاعرُ؛ ففي ثناياها، نلمسُ الصدقَ الوجدانيَّ، وتتجلى المعاني نابعةً من الذاتِ الإنسانيةِ البشريةِ.

وهذه النزعة الواقعية لم تعنِ التخلي عن الخيال أو الصور البلاغية، بل على العكس، استخدموا الخيال ليعمقوا فهم الواقع، ويقدموا رؤى جديدة له، فالصور البلاغية، مثل التشبيه والاستعارة والكناية، لم تعد مجرد زينة، بل أصبحت أدوات أساسية لنقل المعنى، وإيصال المشاعر، وخلق لمسة فنية مبتكرة تحمل عمقًا في المعنى يشدُّ القارئَ ويجعلهُ يتوقفُ للتأملِ،ولقد كانت الجدة والعمق والتخيل القوي في الصور البلاغية سمة مميزة لأعمالهم، مما أضفى على قصائدهم طابعًا فريدًا لا يُنسى.

وكذلك الحديث عن الحوار في الشعر بصورة مطولة ووصف الأحداث بصورة مطولة، ووصف الأماكن والزوايا والأشياء الموجودة في المكان، والضوء والسطوع والصوتيات المحيطة بالمكان، وكذلك الرائحة والملمس، يشير إلى عمق التجربة الحسية التي أرادوا إيصالها،ولم يعد الوصف سطحيًا، بل أصبح تفصيليًا، يُحاكي الواقع بكل جزئياته، في محاولة لخلق عالم شعري موازٍ للعالم الحقيقي، ويمكن للقارئ أن يراه، ويسمعه، ويشمه، ويلمسه،وهذا التركيز على التفاصيل الحسية يُضفي على القصيدة حيوية وواقعية، ويجعل القارئ يعيش التجربة بكل حواسه.

أما الحوارات التي تحمل فلسفة الحياة الواقعية للشخصيات وما واجهوه في واقعهم المعاش، فهي تُبرز البعد الدرامي والفكري في شعرهم،ولم تعد الشخصيات مجرد نماذج مثالية أو رمزية، بل أصبحت كائنات بشرية حقيقية، تتحدث بلسانها، وتعبر عن آلامها وأفكارها، وتُشارك القارئ في رحلتها الوجودية،وهذه الحوارات تُضيف طبقة عميقة من الواقعية والتعقيد للقصيدة، وتُبرز النبض الإنساني الصادق الذي سعوا إليه.

ولم يغفل الشعراء المحدثون أهمية التناغم العضوي بين الأبيات، حتى في ظل التحرر من القوالب التقليدية،فلقد أدركوا أن القصيدة، سواء كانت موزونة أو حرة، يجب أن تكون كيانًا متكاملًا، تتسلسل فيه الأفكار وتتلاحم المشاعر بسلاسة وتدفق طبيعي،وهذا التناغم يخلق لحنًا داخليًا خاصًا بالقصيدة، يجعلها تُقرأ وكأنها مقطوعة موسيقية، حتى وإن لم تكن تلتزم بوزن محدد.
ولقد ركزوا على الإحساسَ والتدفقَ الطبيعيَّ الذي يبرزانِ في سهولةِ الجملةِ ووضوحِها، فالمعاني نابعةٌ من الذاتِ الإنسانيةِ البشريةِ، وتُعبِّرُ عن تأملٍ شخصيٍّ حقيقيٍّ، وهذا السلاسة في الانتقال بين الأفكار تُجنب القارئ أي كسر في السياق أثناء القراءة، وتجعل الكلمات والجمل تتدفق بصورة طبيعية وسلسة، بحيث لا يقطع القارئ نفسه أثناء النطق.

والهدف هو جعل موسيقى الكلمات ملموسة للأذن بشكل أكبر، بحيث تشعر وكأنها نغمات تتدفق، وهذا قد تحقق من خلال القافية الداخلية التي تُعزز الجرس الموسيقي داخل السطر أو البيت، ومن خلال اختيار الكلمات ذات الجرس الموسيقي العالي، وتناغم الحروف داخل الأبيات، وعلى الرغم من التحرر من القافية الخارجية الصارمة في بعض أشكال الشعر الحديث، إلا أنهم لم يتخلوا عن فكرة وجود موسيقى للقصيدة، بل نقلوها إلى مستوى أعمق وأكثر تعقيدًا، لتكون موسيقى داخلية، نابعة من اختيار الكلمات وتوزيعها، ومن التكرار الإيقاعي الذي يخلق إيقاعًا ثابتًا في القصيدة.

فالشعراء المحدثين لم يفعلوا مجرد تعديلات شكلية على الشعر العربي، بل قاموا بما يُشبه الثورة الهادئة في بنيته وجوهره،ولقد أطلقوا الشعر من أسره، وفتحوا له آفاقًا جديدة للتعبير، جعلته أكثر قدرة على مواكبة العصر، والتفاعل مع قضايا الإنسان المعاصر،ولم يكن تجديدهم عبثًا، بل كان تعبيرًا عن روح عصر جديد يرفض الجمود، ويطلب من الشعر أن يكون أكثر اقترابًا من الإنسان، لا من القاموس.

لوقد نجحوا في إعادة تعريف الشعر، ليس كقالب جامد، بل كـكائن حي يتنفس، ويتطور، وينمو مع نمو الفكرة والإحساس،ولقد منحوا الشعر العربي عمقًا فلسفيًا، وواقعية إنسانية، وجمالية متجددة، صحيح أن بعض تجاربهم لا تزال مثار جدل حتى اليوم، خاصة فيما يتعلق بقصيدة النثر، إلا أنه لا يمكن إنكار الأثر الكبير الذي تركوه على المشهد الشعري العربي، وكيف ساهموا في إثرائه وتطويره، وجعله مرآة حقيقية لروح العصر، ولسان حال الإنسان في كل زمان ومكان،ولقد كانت هذه الثورة الشعرية بمثابة نقطة تحول حاسمة، مهدت الطريق لأجيال متعاقبة من الشعراء لمواصلة مسيرة التجديد والإبداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى