فن وثقافة

حمدي فراج كوكب يكتب: الإنسان الغائب في الشعر الجاهلي

الإنسان الغائب في الشعر الجاهلي، حينما نُبحر في يمّ الشعر الجاهلي، يتملكنا الذهول أمام روعته البلاغية وفصاحته الفطرية، إنه شعرٌ يتنفس الصحراء، يمتزج برمالها، ويتعرق تحت شمسها الحارقة، نرى فيه الفروسية تتجلى في أبهى صورها، والسيوف تتراقص على وقع المعارك، والخيل تصهل كأنها تنشد أناشيد العنفوان، هو لوحةٌ بديعةٌ للحياة البدوية بكل تفاصيلها الصاخبة، حيث الحركة الدائمة والصراع من أجل البقاء يطبعان كل بيت وكل قافية.

حمدي فراج كوكب يكتب: الإنسان الغائب في الشعر الجاهلي
لكن وسط هذا الزخم من الصورة والحركة، ينتابنا شعورٌ بالغربة، شعورٌ بالبحث عن شيءٍ ما لا نجده، نبحث عن الإنسان، لا الرجل بصفته فارسًا أو قبليًا، بل الإنسان بوصفه كائنًا كونيًا، كيانًا يتأمل، يتألم، يخطئ ويغفر، يتساءل عن الوجود والمصير. هذا الإنسان يكاد يكون غائبًا تمامًا، أو على الأقل، يتوارى خلف حجبٍ سميكة من الفخر والنسب.


لكن وسط هذا الزخم من الصورة والحركة، ينتابنا شعورٌ بالغربة، شعورٌ بالبحث عن شيءٍ ما لا نجده، نبحث عن الإنسان، لا الرجل بصفته فارسًا أو قبليًا، بل الإنسان بوصفه كائنًا كونيًا، كيانًا يتأمل، يتألم، يخطئ ويغفر، يتساءل عن الوجود والمصير. هذا الإنسان يكاد يكون غائبًا تمامًا، أو على الأقل، يتوارى خلف حجبٍ سميكة من الفخر والنسب.

وهنا يطرح السؤال نفسه بإلحاح: هل كان الشعر الجاهلي يحتاج إلى الأفكار الإنسانية الكونية؟ وهل هذا الاحتياج يمثل قصورًا في جوهره؟ ولماذا غاب الإنسان الحقيقي بكل تعقيداته الفلسفية والروحية خلف صليل السيوف وصهيل الخيل وأزيز الفخر القبلي؟
إن الشعر الجاهلي، في جوهره، ليس سوى مرآةٍ صادقةٍ عكست بدقة متناهية تفاصيل عصره، كان الشاعر في ذلك الزمن بمنزلة المتحدث الرسمي باسم القبيلة، عقل القبيلة لا عقل الإنسان، وسطوة الانتماء وتآكل الذات، لسانها الناطق في ميادين السلم والحرب على حد سواء، وظيفته لم تكن تتعدى تمجيد قيم القبيلة، والدفاع عن شرفها، والرثاء لموتاها، والفخر برجالها.

لم يكن يُنتظر منه، أو يُطلب منه، أن يغوص في أعماق الوجود، أو أن يُسائل المصير الإنساني، أو أن يتحدث عن قيمة الإنسان المجرد من انتماءاته القبلية الضيقة، كانت مهمته محددة ومحصورة: أن يُجيد المدح لسيدٍ من سادات القبيلة، وأن يهجو خصمًا ويهدد كيانه، وأن يبكي قتيلًا سقط دفاعًا عن القبيلة، وأن يفتخر بنفسه وسيفه وناقته كرموزٍ لعنفوان تلك القبيلة.

في هذا الإطار، غاب “الإنسان الكوني” بمفهومه الشامل، وحضر “الابن الوفي للقبيلة” بكل ما يحمله هذا الوصف من حدودٍ وضوابط، وأصبح الشاعر صوت الجماعة لا صوت الفرد، وتلاشت تساؤلات الروح أمام ضرورات الانتماء.

ولم يكن هناك فسحةٌ لذاتٍ تتأمل أو تتفرد؛ فالذات هنا هي امتدادٌ للكل القبلي، لا كيانٌ مستقلٌ بذاته. فالشاعر يرى العالم بعين قبيلته، ويحس بمشاعرها، ويكتب بلسانها، فلا يجد متسعًا لبوحٍ شخصيٍّ يتجاوز حدود الحماية والفخر. وهذا ما يجعلنا نلمس غيابًا واضحًا للإنسان الذي يفكر، والذي يتفلسف، والذي يتساءل عن معنى وجوده خارج هذه الدائرة الضيقة من الصراع والبقاء.

ولم تكن البيئة الجاهلية، بطبيعتها القاسية وتكويناتها الاجتماعية المعقدة، لتسمح بظهور أسئلة كبرى تتعلق بالوجود أو المصير، بل كانت هذه البيئة تفتقر إلى المؤسسات التعليمية التي تغذي الفكر النقدي والفلسفي، كما كانت تفتقر إلى طبقة مثقفة بالمعنى الحديث، قادرة على إثارة حوار فكري جماعي يتجاوز الشأن القبلي المباشر، ولم يكن هناك حديث عن مفهوم الحرية الإنسانية بمعناها الشامل، ولا عن العدالة الكونية التي تتجاوز مفهوم الثأر القبلي، ولا عن وحدة البشر كجنسٍ واحدٍ تتجاوز الانقسامات العرقية والقبلية، وكانت الحياة صراعًا يوميًا، لا يترك مجالًا للتفكير العميق أو التأمل الهادئ.
لهذا، لم يكن “التأمل” وظيفة شعرية بحد ذاتها، بل كان “الوصف والانفعال” هو السمة الغالبة على الإنتاج الشعري، فالشاعر الجاهلي كان يصف ما يراه ويشعر به لحظيًا، يعكس انفعالاته المباشرة تجاه حدثٍ معين أو موقفٍ ما، دون الغوص في دلالات هذه الأحداث على الصعيد الوجودي الأعمق.

ولهذا السبب، لا نجد في الشعر الجاهلي ما يشبه: الحيرة الوجودية العميقة التي تجلت في شعر أبي العلاء المعري، أو القلق الروحي الذي ميز شعر الصوفية، أو التمرد الإنساني الذي عبر عنه شعراء كبار مثل نزار قباني أو أمل دنقل.

وغابت هذه الأبعاد لأن التربة الفكرية لم تكن مهيأة لنموها، ولأن الشاعر لم يكن يُنظر إليه كفيلسوف أو مفكر، بل كمصورٍ بارعٍ للمشهد، وناقلٍ أمينٍ للحدث، وكان هذا الفراغ الفلسفي بمثابة سياجٍ حال دون وصول الشعر الجاهلي إلى آفاقٍ إنسانية كونية أوسع.

وعندما نبحث عن “الإنسان” في صورته الأكثر اكتمالًا وتنوعًا في الشعر الجاهلي، نصطدم بحقيقةٍ قاسية: لا نكاد نجد دفاعًا عن المرأة ككائنٍ ذي وعيٍ وكرامةٍ وإرادةٍ مستقلة، بل إنها تظهر غالبًا كرمزٍ للرغبة، أو كسببٍ للفخر العائلي، أو كصورةٍ جماليةٍ تُوصف تفاصيلها الحسية.

ونادرًا ما نرى لها دورًا فاعلًا يتجاوز هذه الأطر التقليدية التي تضعها في موقعٍ ثانويٍّ، بل مجرد غايةٍ لا ذاتٍ. وكلماتها وحواراتها قليلة، وعمق شخصيتها يُطمس تحت سطوة الصور الجاهزة التي تُقدمها ككائنٍ يرتبط بالجمال أو النسب، لا بالوعي أو الكينونة المستقلة. وهي ليست موضوعًا للتأمل الفلسفي حول وضعها الإنساني، بل هي جزءٌ من المشهد القبلي، تُذكر لتعكس قوة الرجل أو غنمه أو مكانته.

والأمر لا يتوقف عند المرأة، بل يمتد ليشمل كل الفئات المهمشة، فلا نجد رثاءً حزينًا لإنسانٍ فقيرٍ معدوم، مات جوعًا أو مرضًا، بل الرثاء يُخصص لمن قُتل في معركة، وهو يُقاتل بشجاعةٍ من أجل قبيلته، والحزن هنا مرتبطٌ بالشجاعة، وبالفروسية، وبالخسارة القبلية، لا بمعاناة الإنسان المجردة من أي انتماء. كما أننا لا نجد تعاطفًا عميقًا مع العبيد، أو المهمشين، أو الغرباء المختلفين الذين قد يجدون أنفسهم خارج دائرة القبيلة.

فالشعر الجاهلي، بتركيزه على النخبة، لا يرى إلا من كان “شريفًا”، أو “فارسًا”، أو “مقاتلًا”، أو “حرًّا” ذا نسبٍ مرموق.

أما الباقون، فصمت عنهم الشعر صمتًا مطبقًا، كأنهم غير موجودين في هذا العالم، أو كأن وجودهم لا يستحق الذكر أو التأمل. وهذا الإقصاء يعكس عقليةً قبليةً ترى الوجود من زاويةٍ ضيقةٍ، لا تتسع لكل أطياف البشر.

وعلى الرغم من أن الشعر الجاهلي يزخر بمشاعر الحزن، والبكاء، والخوف، والحنين، إلا أن هذه المشاعر غالبًا ما تكون نابعةً من سياقاتٍ محددةٍ وقبليةٍ بحتة؛ فالحزن يجيء نتيجة فقدٍ قبلي، أو هزيمةٍ قومية، أو غيابٍ لمحبوبٍ يرتبط بفخر الشاعر أو عشيرته. أي إنها ليست مشاعر ناتجة عن أسئلة وجودية عميقة، بل هي استجابةٌ مباشرةٌ لظروف الحياة القاسية وصراعاتها اليومية.

ولا نقرأ في شعرهم تساؤلاتٍ جوهريةً فلسفية مثل: “لماذا الحياة قاسية؟” أو “ماذا بعد تلك الأشياء؟” أو “ما الغاية من هذه المشقة والعناء؟” بل نقرأ أسئلةً عمليةً ومباشرةً: “من قتلنا؟” و”متى نثأر؟” و”أين كرامتنا التي سلبت؟” إنها أسئلةٌ تدور في فلك البقاء، والرد على التحديات الراهنة، والحفاظ على الكرامة القبلية.

ولم تكن هناك محاولةٌ لـ”فهم الحياة” في بعدها الفلسفي أو الوجودي، بل كان التركيز فقط على “العيش فيها” بكل ما يحمله هذا العيش من تحدياتٍ وصراعات.

فالشاعر الجاهلي يصف المشهد، ويعكس الانفعال، لكنه لا يتوقف ليتأمل معنى هذا المشهد أو دلالة هذا الانفعال على كينونة الإنسان أو مصيره الأبدي، فهو شاعرٌ يوثق الأحداث، لا فيلسوفٌ يستنطقها بحثًا عن المعاني الخفية.

ولكي ندرك حجم الفجوة بين الشعر الجاهلي والشعر الذي يحمل بعدًا إنسانيًا كونيًا، لا بد لنا من إجراء مقارنةٍ سريعةٍ مع بعض النماذج الشعرية البارزة التي تجاوزت حدود الزمان والمكان، ولنقارن مثلًا بين الشعر الجاهلي وبين شعر المتنبي، حيث نجد قصائد مثل: “إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ…”؛

فتحمل في طياتها حديثًا عميقًا عن الذات، وعن الشرف، وعن المجد، وعن مصير الفرد في مواجهة الحياة. إنها فلسفةٌ شخصيةٌ تلامس روح المتلقي بغض النظر عن انتمائه القبلي.

ثم ننتقل إلى أبي العلاء المعري، الذي لم يتورع عن نقد الوجود نفسه، وطرح أسئلةٍ جريئةٍ عن العدل والظلم، وعن الحياة والموت، وعن معنى المعاناة الإنسانية، كما في بيته الشهير: “هذا ما جناه أبي عليّ…”.

فإنه يتجاوز السياق الفردي أو القبلي ليناقش قضايا كونية تشغل فكر الإنسان في كل زمان ومكان. ولا يمكننا أن نغفل جبران خليل جبران، الذي قدم فكرًا إنسانيًا عالميًا، يتجاوز الحدود الضيقة، كما في قوله: “ويل لأمة تلبس مما لا تنسج…”.

فهنا يتجلى الإنسان كقيمةٍ عليا، لا كجزءٍ من قبيلة أو طائفة. وكذلك نزار قباني، الذي رسّخ مفهوم الإنسان كقيمةٍ بحد ذاتها، لا كوظيفةٍ أو نسبٍ أو دورٍ اجتماعيٍّ محدد.

والشعر الجاهلي، بطبيعته، لا يطرح هذه الأسئلة الكونية أو الفلسفية، لأنه لم يكن معنيًا بها أصلًا، فقد كانت أولوياته مختلفة، تتمركز حول القيم القبلية، والصراع من أجل البقاء، وتوثيق الأحداث اليومية.

ولم يكن الشاعر الجاهلي يسعى لتجريد الإنسان من سياقه القبلي ليُقدمه ككائنٍ مجردٍ يفكر ويتأمل في الوجود، بل كان يراه دائمًا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والقبلي الذي ينتمي إليه.

ومع ذلك فالشعر الجاهلي لم يكن ناقصًا من حيث الجمال الفني، ولا من حيث القوة اللغوية أو البلاغة الفطرية، فهو شعرٌ بكرٌ، يفيض بالصور الحية والأخيلة الجريئة، ويعكس بصدقٍ شديدٍ حياةً بكل ما فيها من عنفوانٍ وقسوةٍ وبساطة، وإنه وصفٌ دقيقٌ للحياة كما هي: صحراء مترامية الأطراف، وصراعٌ لا ينتهي، وقبيلةٌ هي الملاذ الأخير، وسيفٌ هو الحامي الوحيد.

ولكن الشعر الجاهلي كان يحتاج إلى دراسة “الإنسان” بمفهومه الشامل والعميق. والحياة في أبعادها الوجودية، هذا الاحتياج ليس بسبب قصورٍ في قدرة الشاعر على التعبير، بل لأن بيئته وثقافته لم تدفعه إلى طرحها. فالشاعر الجاهلي لم يكن “فيلسوفًا” يغوص في بواطن الوجود، ولا “مصلحًا اجتماعيًا” يهدف إلى تغيير المفاهيم، بل كان في المقام الأول “مغني القبيلة”، والمؤرخ الشفوي لأمجادها وانتصاراتها وخساراتها.
و لهذا، ظل “الإنسان” الحقيقي، بكل تعقيداته الفلسفية والروحية، مكسوًّا بالرمال، متواريًا خلف غبار الصراعات القبلية، حتى جاءت عصورٌ أخرى، عصورٌ حملت معها مفاهيم جديدة، ونفضت الغبار عن الذات، وسمحت للإنسان بأن يظهر في الشعر بكل أبعاده الكونية والوجودية. وهذا النقص، على الرغم من أنه يحد من النطاق الفلسفي للشعر الجاهلي، إلا أنه لا ينقص من قيمته التأسيسية كأحد أهم أعمدة الشعر العربي على الإطلاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى