كتب: مصطفى نصار
في لافتة مثيرة للاهتمام، كان الصحفي و الكاتب السياسي صمويل شنيلكه متواجد في ميدان التحرير يسجل مدوناته في بداية الثورة المصرية في ٢٥ يناير ٢٠١١، ليجد نفسه محصورًا بين جمعة الغضب ، و جحافل الأمن و هم يطلقون النيران على المتظاهرين قبيل اللحظة الشهيرة التي يخلع فيها الشرطة ملابسهم ، ليجروا بعدها تاركين إياها تعج بالاضطرابات و الفوضى ، كما كان مخططًا من الداخلية نفسها ، لكن ما حدث هو العكس تمامًا حيث حافظ الناس على الشوارع مكونين لجان شعبية ، و الأكثر أهمية هي ملاحظة شنيكله نفسه حيال هذا الوضع المنفلت وفقًا لرواية السلطة آنذاك معتبرًا ذلك في كتابه “هيا بنا على الثورة” ، محاولة بائسة للتمسك و التشبث بالسلطة السياسة في مصر عبر آليات محدودة معمقة .
و بين الآليات المعمقة ، و العوامل التي رصدها شينكله تزامن غريب لبناء اجتماعي راسخ و متعمق ، مفاده الأول التأليه الخفي و المعية الواضحة لغير الله عبر آلات التعذيب و القمع الممنهج و المخيف ، ليتحقق للاستبداد و الدكتاتورية الوحشية ، و لإن المجتمعات إن استعادت الثقة في الذات باتت هذه الدكتاتورية واهية ، و تنتظر آخر سطر في حكايتهم المروعة بسقوط مدوي و متسارع كما حدث في حالة بشار الأسد. و لن تفيد آنذاك ذعر الدكتاتور القوي الذي رسخ لنفسه أساطير منعته و قوته ، و هي خيالات محكية بشكل يثبت الدماء كما يؤكد آرثر أربري أستاذ الدراسات الآسيوية ، و التاريخ المعاصر في جامعة أكسفورد في كتابه “خرافة الزعيم القوي”.
و لعل تلك أهم الأساليب الوحشية و المفعمة بالسادية و الإجرام المجنون ما يجعل الفرد يتناسى اسمه في بعض الأحيان، و تتميز بعض الدول بسجل حافل في التعذيب و الانتقام، و ليس شرطًا أن تكون بسبب كما هو في البلاد ذات سيادة القانون لإن ببساطة الطغيان لا يعترف إلا بشريعة الغاب و تأليه الطاغية ، و انتهاءً بسبل الإلهاء المختلفة في خارج السجون ، لترسم صورة تهديدية مليئة بالخوف تحقيقًا للمقال المعروف “امشي جنب الحيط “ظنًا من المغبون أنه خوفه سينفعه ، و ما هو إلا مدعم و معزز لهدم الجدار ذاته مثلما حدث في تجارب التاريخ، و هو ما يتحقق في قول الشيخ سلمان العودة فك الله أسره أسئلة الثورة “ما لم يريد التغيير سيجري التغيير عليه ” مما يدل على حتمية التغيير و التحويل سواء أراد أم تمنع عن ذلك .
و مع حالة التثاوب الدائم ، ثم الركود تحت سلطة الاستبعاد تتأخذ إجراءات متسارعة و غبية ، من شأنها فقط الحفاظ على الكراسي و العروش ،ما يعلي الغرور و الاستعلاء لدى الدكتاتور ، و بالطبع نمو متسارع لقمع المعارضة ، مهندسًا بذلك دولة استبعادية منغلقة ، موغلة في الفساد و السرقة عبر عمولات ، و رشوات كبيرة ، و باهظة ، ثم بالإضافة التعزيز في القهر و الامتهان بجعل الدولة نفسها عبارة عن سجنين ، أحداهما مغلق ضيق ، و الآخر واسع رحب ينتهي بامتلاك جنسية أخرى أو الهروب خارج حدود الدولة .
و عطفًا على ذلك ، من الضروري أن نتلفت لنصيحة الفيلسوف الإيطالي فرانسكيسو كروتشه في كتاب “بيان ضد الفاشية” أن أي سجون تهدد بتقويض البلاد و هدم استقرارها حتى لو حافظت على شكلها الثابت و المستقر ، و من أبرز التطبيقات العملية لتلك الفلسفة المقيتة و الإنهيارية سجن صيدنايا المخيف و المفزع .
عودة النازية و الاستالينية الأسدية : صيدنايا تجسيد دولة سوريا الأسد
السجن أو المسلخ البشري المسمى صيدنايا ، عبارة عن تجسيد مكثف لممارسات عائلة الأسد على مدار أكثر من ٥٣ عامًا ليس فقط لقصصه المروعة ، أو بشاعة أسباب الاعتقال ، بل كذلك التفضيل و التميز بحسب العرق و الدين ، فكان يميز بين فترات الحبس و الاختفاء القسري بين التيارات الإسلامية و القومية لإنه سوريا الأسد وفقًا لأستاذة علم السياسة ليزا وادين في كتابها السيطرة الغامضة ، مما جعله سيء السمعة لدى المنظمات الحقوقية المحلية و الدولية، مطلقين عليه “المسلخ البشري أو السجن التي تقضي فيه عائلة الأسد على معارضيها بهدوء”كما وصفته الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرين مختلفين في عامين ٢٠١٠ ، ٢٠١٥.
بني السجن على تل مدينة صيدنايا الجميلة ذات التاريخ العريق ، و المباني العتيقة الجذابة ، مما ولد نوعًا من التناقض الصارخ لإنه مولد للقبح و البشاعة لمجموعة من أبشع التجارب و المراحل التاريخية منذ محاكم التفتيش بين عامي ١٤٩٦ ،١٥١٧ م . و للمفارقة الأكثر دويًا يذكر المؤرخ ماثيو كار أن الإبادة لشعب الأندلس تمت على مئة عام بوتيرة بطيئة و متواهدة ، و ذلك لإنها محاكم للتنصير ، أما المسلخ البشري فغرضه الوحيد الانتقام الوحشي و الدموي و التصفية الكامل للمعارضين، و خاصة الإسلاميين منهم .
و لم يكتف الأسد بالطبع بالاعتقال ، و رميهم في المعتقل لتضييع أعمارهم ، ليتخطى الأمر مرحلة المسلخ البشري لتحويله لمقابر للأحياء قبيل الأموات حيث كثرت عدد المقابر الجماعية في محيط السجن خلال ١١ عام فقط من ٤٠٠ ل ١١٠٠ مقبرة جماعية فضلًا عن وجود مكابس بشرية للتعذيب حتى الموت ، و تحنيط الجثث في غرف الملح دون إبداء أي احترام للأموات قبل الأحياء ، و كيف يبدي احترام أو تقدير لهم و بناء السجن جاء على مراحل من مصادرة الأرض منذ عام ١٩٧٦ ، حتى تشغيله في عام ١٩٨٦م .
و تنوعت أشكال و ألوان التعذيب و التنكيل ، ليحكي لنا مازن الحُمادة الإعلامي و الناشط السوري الراحل تجارب محزنة، و مرعبة تنم عن حقد ممزوج بالوحشية المفرطة منها على سبيل المثال لا الحصر مسك أحد السجانين لكرة حديدية ذات سنون حديدية مدبدبة ليماثل نفسه بالمحاكمة الإلهية ، و يكمل ضرب إلي أن تفتح رأسه ، مع الاعتبار أن قصة مازن نفسها مؤلمة و محزنة حيث أنه لقب بالموت المتكلم بسبب ملامح وجهه الكئيبة و الحزبية، و انتهت حياته معذبًا في مستشفى حرستا العسكري ،و وجدوا جثته عليها علامات تعذيب و أذى جسيم بدني ، حتى أنهم لم يغلقوا عيناه عند موته إمعانًا في ذله و امتهانه .
و في سياق متصل و متزامن ، يشبه الأكاديميان أوميت أونجور و شريف جبر سجون الأسد بجلوغ الاتحاد السوفيتي البائد و السابق لما كان فيه من أنماط مأساوية، و مآلات اعتبرت ضمن دراسات الإبادة الجماعية و العرقية ، فستالين اعتقل و صفى كلا من عارضه بناء على ميله و أرائه أو حتى دينه ، فدق أسفين الانقسام و التشظي المجتمعي إلي أن تبخرت أقبيته و سجونه أول ما انهار الاتحاد السوفيتي. فانتهج حافظ و بشار الأسد الاستالينية الجديدة و النازية مرتكزين على الحقد المركز و الطائفية ، فانهار نظاميهما ليس للتأليه أو زرع الخوف ، و إنما لزرع الحقد و الكراهية و الاستبداد المجسد في صيدنايا دون تولية أي اعتبار لإصلاحات ملموسة أو تغيير حقيقي .
و لهذا السبب، يوجد عدة أفراح و عيد بتحرير مساجين السجون السورية عامة ، و صيدنايا خاصة ليس فقط لمعاناتهم و تجاربهم المؤلمة ، و منها بخلاف تجربة مازن و الإسلاميين سجن أكثر من ٣٠٠٠ طفل ، و ولادة أكثر من ٥٥٠ آخرين نتيجة الاعتداءات على النساء في السجون ، و التلذذ في التعذيب حتى الموت . و توثق هذه التجارب كذلك ما أكده الصحفي الفرنسي ميشيل سورا حول العلويين كدولة متوحشة يرى الحكام أنفسهم فيها متفوقين و أعلى من محكومينهم ، برغم رؤية الشيعة أنفسهم للعلويين كطائفة مرجفة زنديقة على أخف الاقتباسات منذ ابن تيمية حتى الانتداب الفرنسي ، فأدى ذلك للإيمان بأحقية القيام بتلك البشائع بصدق ، كما أكد الفيلسوف إريك هوفر في كتابه المؤمن الصادق .
فما وجد من سبيل لهذا التوحش إلا بمقابلته بالدفاع و المعارضة المسلحة ، لإثبات قوى مضادة تعوض الفراغ الاستبدادي الذي قام به الأسد بنظامه الهش ، لنتمكن الفصائل من فك قيود السجن الكبير في النهاية في وقت قياسي ووتيرة خيالية .
تابع موقع مصر الساعة عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا.
تابع موقع مصر الساعة عبر قناة (تليجرام) اضغط هــــــــــنا.
تابع موقع مصر الساعة عبر منصة X (تويتر) اضغط هنـــــــــــا.
موقع مصر الساعة، موقع إخباري شامل يهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري بما يليق بقواعد وقيم الأسرة المصرية، لذلك نقدم لكم مجموعة كبيرة من الأخبار المتنوعة داخل الأقسام التالية، الأخبار، الاقتصاد، حوادث وقضايا، فن وثقافة، أخبار الرياضة، أخبار عالمية، منوعات، محافظات، صحة ومرأة، بترول, أخبار البنوك، أخبار العقارات ,خدمات، خدمات مثل سعر الدولار، سعر الذهب، سعر البيض والدواجن، سعر اليورو، سعر العملات الأجنبية، أسعار البنزين.