العودة المتوقعة للغدر الإبادي: عودة الحرب من مرقدها الزائف
غدر و خيانة: الهدنة الصورية لإعادة ترتيب الأوراق

كتب: مصطفى نصار
عودة الحرب من مرقدها الزائف، فجر يوم الثلاثاء الموافق ١٨ مارس ، تفاجأ أهل غزة بتجدد القصف الإسرائيلي عليهم بطريقة مكثفة و مدمرة ، و بلغ عدد الشهداء لحد تاريخ كتابة هذا المقال ٥٦٧ شهيدًا و كذلك الآلاف من المصابين مع عودة المشاهد المؤلمة و المعتصرة للقلوب في القطاع المحاصر ، و قطع كافة الخدمات منها المساعدات الإنسانية بعد موافقة شبه جزئية من الاحتلال على دخول الحد الأدنى منها لحد الاتفاق الكلي على خطة تشمل رؤية واضحة لإعادة الإعمار ، سامحة إياها بالقضاء الفوري على حماس.
العودة المتوقعة للغدر الإبادي: عودة الحرب من مرقدها الزائف
طرحت بداية الحرب هذه المرة عدة تساؤلات ملحة، منها احتمالية غدر و خيانة الاحتلال للهدنة من اللحظة الأولى التي عقدت فيها منذ شهرين لإنها مأزومة و تعيش على الحرب ، و لزيادة الضغط عملت على اغتيال قيادات المجتمع المدني و الأمنية و الداخلية التي عملت على تأمين المساعدات و إعادة بناء القطاع و تماسكه القوي مثل أحمد الحتة و محمود أبو وطفة و بهجت أبو سلطان ، و غيرهم الكثير بأسرهم في بعض الأحيان ، مثل عصام الدلول عضو المكتب السياسي للحركة ، و كثير من الاستهدافات الممنهجة التي أثبتت إسرائيل من خلالها أن اتفاق الهدنة صوري بل مجرد طريقة أخرى لإعادة ترتيب الأوراق داخل الكيان الإسرائيلي.
ما يزيد فرضية ترتيب الأوراق إعادة القصف الشديد للاستثمار في الفوضى التخربية التي تزامنت مع إعطاء ترامب الكارت الأخضر لهم بإعادة الحرب على قطاع غزة لفشلهم الذريع في الحصول على الرهائن الإسرائيلين، معززًا بسياسات خارجية مختلة يتخدها ترامب ، على رأسها تهديده لحماس مباشرة ، و لهذا عمل على إعطاء أكبر فرصة لإسرائيل في الهدنة لإعادة القصف و توسيع جبهاتها المختلفة لتشتمل على خمس جبهات أساسية سورية لبنان الضفة غزة ، و أخيرًا رفح ، مع اعتبار الهدنة جس نبض لخضوع حماس بشكل كامل أو على الأقل تنفيذ مطلب ترامب بخصوص الخروج من غزة.
أما فيما يتعلق بمدى جدية الهدنة و رغبة إسرائيل في استمرارها ، فيكفي النظر لتصريحات اليمين المتطرف الراغب بشدة عارمة في عودة الحرب ، و توسيعها لإزالة المهانة الكبرى ، و تطهير غزة عرقيًا مصاحبة بتغييرات شاملة في الجيش و المؤسسة العسكرية مثل رئيس الأركان إيال زاميير مكان هرتسي هاليفي ، و كذلك رئيف عستور رئيس الموارد البشرية في الكيان المحتل ، مما يعني اتفاق جمعي على إكمال الحرب الإبادية عبر غدر الوقف و خيانة لا تعبر إلا عن دناءة معهودة من الاحتلال اللقيط كالعادة ، فضلًا عن محاولة تحقيقه لأي انتصار وهمي أو زائف حتى على حساب المدنيين العزل مثلما سبق في الخمسة عشر شهرًا الماضيين.
فليس هناك إثبات دامغ على جدية و التزام المحتل الإسرائيلي بالوقف نظرًا لإن تحقيق شروط المقاومة يضعها في موضع المنتصر الكريم ، فلجأ لعودة أعنف و أشد من الحرب بدلًا من تنفيذ الهدنة لنهايتها ، و لعل هذا الخبث الممزوج بالانحطاط كتب عنه المحلل العسكري لصحفية معاريف آفي أشكانزي مقال رأي يعتبر فيه مجزرة رمضان “ضربة غير مسبوقة “، ليرد عليه في اليوم التالي الصحفي البريطاني ديفيد هيرست و يقول بمنتهى الوضوح أن “ذلك دليل جديد على انحطاط أخلاقي من القيادة الإسرائيلية “، دون الالتفات لترتيب الأوراق داخليًا و خارجيًا.
تشرذم يعقبه مراوغة و إعادة تكاتف زائفة
تفاقمت حالة الانقسام الشديد بين رونين بار رئيس الشاباك الإسرائيلي، و نتنياهو إثر جدوى إكمال الحرب مما دفع الأخير لتقديم شكوى للمحكمة العليا للسماح له بإقالته لكن المحكمة رفضت الطلب من الأساس، لإنه لم يخطئ قانونيًا ، بل أن نتنياهو اشتطاط غضبًا فقط من هذا القرار ليس بسبب معارضة بار ، و إنما لاقتراحه المستمر بإيقاف الحرب ، و إكمال الهدنة بطريقة مناسبة و متممة لإنقاذ الأسرى بدلًا من قتلهم بنيران صديقة أو محاولات فاشلة لإنقاذهم مثل مجزرة النصيرات في مايو الماضي ، أو يقتلوا على يد جنود القسام مثلما حدث في شهر أغسطس الماضي ، و منعه من فضح التقارير الاستخباراتية ، و المخابراتية الكاشفة بتجلي أن سبب ٧ أكتوبر تجاهل نتنياهو لتحذيرات الشاباك بشأن تجهيز المقاومة للطوفان العظيم.
و يتزامن ذلك الأزمة مع تظاهرات مشتركة و متكاتفة بذرائع متعددة ، مشركين فيها طوائف و مجموعات ضخمة لعدة أسباب منها وقف الحرب ، و كذلك رفض التجنيد الإجباري للحريديم ، و هم طائفة متطرفة من اليهود المتدينين معافين من التجنيد الإجباري لدراستهم الدين اليهودي و اللاهوت لذلك ، و الفئة الأخيرة تكمن في أسر الرهائن الإسرائيلين الذين طالما مثلوا أزمة متجذرة لنتنياهو فيما بعد ٧ أكتوبر ، مما مثل أزمة سياسة حقيقة في إسرائيل وصل ليائير لابيد زعيم المعارضة أن هذا المناخ المحتوم سيؤدي بالضرورة “لحرب أهلية بين المؤيدين و المعارضين للحكومة ” ، موافقًا مع بار نفسه و أفيجدو لبيرمان زعيم حزب قوة يهودية ووزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق أن تعنت نتنياهو “سيؤدي لكارثة محققة ” منحدرة لحرب أهلية .
ما عمل على إزالة تلك الهالة الزائفة موقف نتنياهو من بار الذي أشعل الشارع الإسرائيلي بالفعل أكثر من قبل ، هاربًا لموقف المستبدين العرب بالتخوين و الاتهام الزائف بتلقي تمويل سخي من قطر ، باعتبارها رعاية لحماس إعلاميًا ، فقام بار بردة فعل نارية على نتنياهو و هي الاعتراف بالوثائق الإسرائيلية التي توضح مسؤولية نتنياهو عن ٧ أكتوبر .
فنتيجة لذلك التراشق الحاد ، لم يجد نتنياهو إلا التهديد المتكرر بقدرته على إنهاء صلاحيات بار وقتما يريد ، ليرفع أمر رفض بعد ذلك كما سلف ذكره من قبل ، ليس حبًا في بار بالطبع، لكنه الأخير وسط زمرة اليمينين الجدد ، لاستقالة الباقي أو تخلص نتنياهو منهم مثل يوآف غالانت بمكالمة واحدة ، و استقالة بيني غانتس ، و غازي آيكزوت ، مع محاولة يائسة لإعادة تشكيل المشهد بأكمله عبر تعيين رجال مقربين له فكريًا أو براغماتيًا ، بإغفال أن تلك الحركة ستخلق أرضية خصبة للحرب أو القضاء على الاستقرار المزعوم و سيادة القانون.
علاوة على ذلك، فإن الأزمة السياسية لها أبعاد عديدة تجرف إسرائيل للهاوية السحيقة ، لإن نتنياهو يستند بقوة لليمين المتطرف لدرجة أن بن غفير اشترط عليه عودته للحكومة بشرط استئناف الحرب ، و عدم اقتناع المتطرفين بأن توقف الحرب فيه إنقاذ للكيان الإسرائيلي، فضلًا عن وجود مجموعة من الاتهامات الناهية لمستقبله السياسي، بعبارة أخرى تغذية استمرار هذه الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان على الحرب الإبادية على أهالينا في القطاع ، و كذلك مدى التشظي الكبير و الانقسامات الضخمة بين المجتمع المختل ، و المصطنع ليبرز سؤال حيوي ذا دلالة ألا و هو “هل ستفوز إسرائيل بالحرب ، و متى ستردع ؟!”.
عبر ضغط الشعوب و إزالة الجدار الخرساني للخوف :المجتمع الإسرائيلي في مواجهة الشعوب العربية .
في مقابلته المثيرة للجدل ، أجاب السمسار العقاري و مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف على سؤال مزعج للشعوب العربية ، و الشعب المصري خاصة “ماذا علينا أن نفعل ، و هل تقع علينا مسؤولية ، و الأهم من ذلك كله قدرتنا على التغيير ؟” ليرسم طريقًا واضحًا كما قال “عامل هائل “، و يجيب عن التخوفات الممنطقة عقليًا ، و هي في حقيقة الأمر أوهام مثبطة ترتقي لدرجة الهلاوس البلهاء التي تحرق الأعمار و القلوب بصورة أقرب للدراما الإغريقية .
في كتابه المجتمع الإسرائيلي، يضع المؤرخ و عالم الاجتماع الإسرائيلي باروخ كيميرليغ هشاشة المجتمع و هلهلته الكبيرة الذي لا يتفق على قرار واحد ، حتى اعتبر أن اختلاف المرجعية الواضحة سبب في عدم وضع دستورية موحدة ، حتى جاءت حكومة اليمين المتطرف الجديدة بقيادة نتنياهو و عصبته من المتطرفين لتدخل حقبة جديدة مفادها لا صوت يعلو فوق صوت الاختلاف ، و لعل هذا ما جعل الباحث بشير اللقيس يجزم بالنقل عن كيميرليغ و شمعون سالينديات عالم الاجتماع و الفيلسوف الإسرائيلي المناهض للصهيونية في كتابه المنشور ١٩٦٩ بعنوان المجتمع الإسرائيلي ليخرج باستنتاج قديم حديث مفاده أن مجتمع الشتات لزوال محتوم.
يبدو إذن أن الوهن المصري كسر الهشاشة الإسرائيلية ليرسم صورة قميئة يقتل فيها شعب محاصر أعزل باستعلاء و استحقار إسرائيلي فج للشعوب ، متزامنة مع تواطؤ عربي صريح العلامات ،و على رأسه المصريين المشتتين بين كربهم العظيم و سجنهم بنوعيه الكبير و الصغير ، يرجون الله و هم يعرفون علم اليقين قدرتهم على فرض واقع جديد في الإقليم العربي إذ ما أرادوا زلزلة الأرض لهدم الجدار الأساسي المسبب لنكبتنا و حسرتنا المتكاملة الخوف الهيستري من الرجوع للسياسة لا بصفتها حياة بل بصفتها وباء عضال لا يمكن معالجته ، و هو ما يريده العدو الإسرائيلي في الداخل و الخارج .
تندرج إجابة ردع العدوان الإسرائيلي في غزة و سورية في قدرة الشعب المصري على إحضار السياسة مرة أخرى بشكل يسبب صدمات مدوية قد ينتج عنه اشتداد في القمع الأمني، لكن في نهاية المطاف أرض المعركة أفضل بمراحل من جلسة المحراب التي نخرت القلوب ، و قذفت العقول ، و شلت الألسن فلا قدمت حلًا يجدي ، و لا أوقفت المجزرة و لم تهد روع الاحتلال أو تخفيه سوى “التحرر الكامل “بتعبير أستاذنا الراحل جمال حمدان ، أم سنرضى بشجاعة الوشق المصري المتفوق شجاعته و بأسه على شجاعة و مستقبل شعب قوامه ١٢٠ مليون جميعهم خائف من مصير معروف سابقًا ، و غير مؤجل العواقب أم المجيء .
فطالما كان الشعب المصري مفتاح العقد و الحل في القضايا الكبرى التي جمعت الرجال الشجعان الأشاوش ، و كذلك النساء للمواجهة المباشرة ، على سبيل المثال معركة المنصورة القاضية على لويس الرابع عشر، و ضغطهم على إسرائيل عام ٢٠١٢ لإيقاف القصف الوحشي ، فإرادة الشعوب تحكم لا الأنظمة ، فحكم التسلط هادم هدام ناسف مدمر لأصول الدين و الأخلاق و طبائع البشر لإن المجتمعات المحكومة بالهوى مصيرها الزوال الحتمي طالما لا يوجد مقاومة مستمرة للضغط أو حتى التجمهر ، و هو أقل القليل لتغيير المعادلة بدلًا من انتظار العقاب المعذب للجميع بالفعل دون التفريق العمري أو الطبقي