إبادة بيضاء مخضبة بالدماء.. الدعم السريع يهشم دعائم المنظومة الصحية في السودان

كتب: مصطفى نصار
أثار خبر حرق مستشفى عام في مخيم زمزم الواقع قرب إقليم دارفور و قتل كل من فيه من أطباء ، و أطقم تمريض حتى من حاول معالجة و مداوة الجرحى خارج المستشفى يوم الأربعاء و الخميس الماضي ردود فعل واسعة ببن استياء و صدمة في تعبير صارخ و مؤلم عن انتهاج سياسة فاشية في الإبادة الجماعية بعدم شفاء المرضى و المصابين الذي وصل عددهم ل١٥٠ ألف شخص في آخر تقديرات الأمم المتحددة المنشور في يناير الماضي.
إبادة بيضاء مخضبة بالدماء.. الدعم السريع يهشم دعائم المنظومة الصحية في السودان
و تعد السياسة المتبعة سياسة ممنهجة لتحقيق عدة أهداف منها تحقيق الضغط على السودانيين أنفسهم للانقلاب على الجيش ، و تطويق المنظومة الصحية عبر هدمها الشامل و العارم ، و كذلك إعطاء فرصة للأمراض المزمنة و الجروح بالفتك بالسودانيين إن لم تطالهم البنادق و الطائرات ، وبالفعل مات أكثر من ١١ألف إنسان بفعل الأمراض المزمنة و الأوبئة المندثرة أو بسبب تأخر الإسعاف أو عدم وجود مسعفين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني أو أنفسهم ، و هنا يأتي وصف مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية دقيقًا موجزًا معبر عن حجم المأساة السودانية “أنها أكبر أزمة إنسانية مأساوية و دمارًا ” ،ما يدفع الأمر لتكرار معانات و إبادات بيضاء مشابه منذ بداية الحرب في أبريل من العام ٢٠٢٣م.
حاول الجيش تدرج و تفادي الأزمة بعدة خطوات عملية و مجدية ، لكنها ذهبت مع الريح دون حتى أن تؤتي ربع ثمارها المظنون منها ، و بهذا المنطق غير المنظم وجد وزير الصحة السوداني نفسه معترفًا بالكارثة الصحية التي أصبحت فيها أكثر من ثلث المستشفيات مدمرة ، بمعدل ٢٥٠ مستشفى من أصل ٧٥٠ فضلًا عن تعمد استهداف الأطباء و الممرضين لتتوج نهاية تلك الاستهدافات الطبيبة هنادي أحمد المقتولة عمدًا من قناص ليبلغ العدد بتمام حلول شهر فبراير ل٨آلاف طبيب .
و في إطار الاستراتيجيات المستخدمة في تلك الحرب البربرية ، قام الجنرال الفاشي بينيتو موسوليني بافتعال نفس السياسات المجنونة في قصف المستشفيات الليبية و الإسبانية للقيام بنفس الضغط على السكان ، و السعي لتحقيق معادلة مذلة تقلب الناس على فرانكو في الحالة الإسبانية و عمر المختار في الليبية ، لينقلب عليه السحر بغضب الناس عليه في إيطاليا ، و كذلك اشتداد المقاومة الليبية عليه حتى كتبت نهايته التراجيدية على يد شعبه رميًا بالرصاص الحي في سيارته برفقة زوجته ، و لم تنفعه مقولته الشهيرة “إن لم تقتله بالرصاص ، اقتله مرضًا ” بل تحولت لمصدر إلهام و عمل جيد لبقية المستبدين و المشنقيين .
في إطار تزايد الاستهدافات المعتمدة ، يرنو الدعم السريع للتوسع في تلك السياسات الدموية، و الوحشية من اغتصاب صعب ، وصولًا لتأثيرات أزمة المنظومة الصحية على المواليد الجدد حيث يعانون من نقص المستلزمات الطبية اللازمة في العمليات القصيرية فضلًا عن حرمان الأطفال من الرعاية المناسبة التي تلائم الحوامل و الرضع و أصحاب الأمراض المزمنة مثل الكبد و الكلي و السرطانات بتدمير أكثر من ٥٥%من مراكز غسيل الكبد ، و ٦٠%من الكلى و ٦٥%من مراكز علاج السرطانات و التي تبرز تساؤل أكبر و أكثر حيوية يتعلق بمدى ترسخ قتل الأطباء و تهميشهم ليؤدي بالتبعية لخراب يصعب إصلاحه منذ بداية الحرب فقط حتى الآن.
الأرض المحروقة و الخراب العظيم …عوث الفساد للدعم السريع في المنظومة الصحية يضاهي الحرب الإسرائيلية
بدأت حكاية استهداف المنظومة الصحية في السودان عندما قصف الدعم السريع مستشفى الدايات في الخرطوم في أغسطس من العام ٢٠٢٣م معللة ذلك بأنها مقر مخزن أسلحة للجيش السوداني ما بشر الجيش السوداني بجزء أصيل في القصف الممنهج للدعم السريع حتى توسع فيها بطريقة مجنونة و شعواء تنم عن اتباع لسياسة الأرض المحروقة التي أشار لها حسان الشاعر و عمر الفاروق و كذلك المراسلين للقنوات الدولية مثل هالة محمد مراسلة قناة TRT بالعربي في أكثر من تغطية عامة .
تضاهي تلك الصورة القاتمة الحرب الإبادية في غزة بعدة مراحل جوهرية على رأسها السرعة الصاروخية بجدية و شراسة الاستهداف بحيث يقود السودانيين داخل أي مستشفى أو وحدة صحية للهرب الفوري خارج المكان لينتقل الدور للقناص المراد له التسلية بقنصهم حتى تكومت الجثث تلالًا فوق بعضها ، و قالت عنها نسرين مالك في مقال رأي كاشف مطول في الجارديان عن عواقب التدمير المادي لمرافق السودان معتبرة ذلك كارثة”عالمية كشفت إرهاب و تواطؤ الدعم السريع على صعيد الداخل ، و أما بالنسبة لخارجيًا فيكفي النظر في آراء خبراء القرن الإفريقي مثل ألكس دي وال و محمود ممداني و آلان دوسيل و انتهاء بالصحفيين السودانيين ذات أنفسهم .
يبرز جانب هام آخر في تلك الأزمة الكبرى ما يتعلق بالصحة النفسية و الإنجابية للسودانيين التي تدهورت بشكل شامل حيث ولد معظم الأجنة و الخدج كذلك لإنهم ولدوا قسريًا و إما ماتوا بفعل التسمم و سوء التغذية المزمن التي عانى منه الأطفال منذ هدم مستشفى الخرطوم و الفاشر المركزي الخدمي ، و لعل هذا التدمير الهائل جزء بسيط من الأرض المحروقة و التي تعد تطبيقًا مؤجزًا عما يعبر عنه الإبادة الجماعية في غزة منذ سنة و نصف في أكتوبر ٢٠٢٣ عقب طوفان الأقصى ما دفع البعض لاتهام الدعم السريع بدقة تامة لوصفها بالمارقة ، و هذا وصف في أقل تقدير ليس بكاف .
عطفًا على ماسبق ، انتشار المجاعة الشديدة عزز بقوة أيضًا تلك الفكرة التي قامت بنشر الأمراض كما أسلف ، لكن اللافت هنا مدى المرض و قوة فتكه في ظل الحرب التي لا تترك أحدًا إلا و مات إما من عدم علاجه ، أو من قلة الموارد و التمويل برغم غناها بالذهب الخالص و المعادن النادرة ، لكن وقوعها في أيد الدعم السريع وجهتها للتمويل و سداد أزمة نقص العداد و العدة حتى على المناطق المسيطرة عليها فالاختلاف بين عدد الوفيات بالأوبئة قاربت أعداد المحاربين لهم في مفارقة أغرب ما تكون في تاريخ الحروب.
هكذا ، تناقض الدعم السريع نفسها بشدة ، مثلها مثل الكيان المحتل في رؤيته الكاملة للسلام و الاستقرار المزعوم التي ظلت على مدار سنة و نصف تدندن و تخدع المجتمع الدولي لمحاولة تكوين رأي موازي حتى بلغت بها المحاولات المستمرة من عقد العديد من المؤتمرات الدولية من شأنها محاولة تثبيت جذر سياسي و اجتماعي ، و للمفارقة أطلقت الوعود الجذابة نحو مستقبل واعد ليخرج لهم بوجهه القبيح و القميء حينما سنحت له الفرصة فقط من الخارج ، متأخذًا نهج الاحتلال الإسرائيلي للمرة الثانية في رؤيته للخصم و العدو بأنهم إما مخربين أو إرهابين أو منشقين أو خارجين عن القانون ، ليتطرح السؤال المنطقي نفسه حول نهاية الإبادة البيضاء.
نهاية مميتة ..مآلات و آفاق مأساوية للإبادة البيضاء
على مدار الحرب السودانية ، بات واضحًا عواقب استهداف المستشفيات في جانبين أساسين أولهما قصير المدى في موت الآلاف و عدم إيجادهم علاج مناسب لكن ما سيؤثر حقًا على المجتمع بفترات طويلة إعادة هيكلته ديموغرافيًا و صحيًا بطريقة معرقلة لنمو البلد و تقدمها حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية على نطاق ممتد ليشمل كافة القطاعات الحيوية مثل الصناعة و التجارة و السياحة و قطاعات التوظيف و الإنتاج ، لينتج بلدًا مهمشًا بالكلية و مستعصية على الإصلاح بشكل كامل و متعافية تمامًا .
بالإضافة لذلك، فإن لما حدث في دافور عبرة مؤلمة و بشعة فيما يتصل بالوضع الصحي الذي دمر تمامًا ووصل لدرجة أن الأزمة مستمرة حتى قيام الثورة على البشير في ديسمبر من العام ٢٠١٩ ، و كذلك المرافق الصحية أهملت بالكامل معززة معاناة أهالي دارفور ، ليهبط مستوى معدل المواليد لأقل مستوياته في ظل ظروف اقتصادية مصطنعة بعناية لمجرد تحدثهم عن رغباتهم في تحقيق العدل بينهم ، و بقية السودانيين فيظهر السؤال الأوحد للإجابة عنه فيما يرتبط بمدى استمرار تلك الأزمة المزمنة و إيقافها الفوري أو على أقل تقدير تقليل الآثار المتوقعة على الصحة النفسية ، فكما هو معروف بالبداهة في حالة الحروب الأهلية .
فلا تتوقف عمليات القصف الممنهج للمراكز الصحية و المستشفيات الطبية لبث اليأس و الإحباط في النفوس فضلًا عن الحرب النفسية لمؤيدين الدعم و العون من الجيش السوداني ، ما قد يدفع البعض للخيانة له ، و الانضمام للدعم السريع عن صدق نوايا ، و أملًا في نهاية الحرب المأساوية ، لكن ما حدث العكس تمامًا بتفوق عسكري و دعم كامل للعمليات العسكرية المتوسعة في مختلف المناطق بدء من ود مدني مرورًا بالجزيرة و انتهاء بالقصر الجمهوري مع تزايد متصاعد في التركيز الفج و المحصور في المرافق الحيوية بموظفيها كلهم بما فيهم الاستقبال و الدعم الفني .
فهدف الدعم السريع إرسال رسالة مسلحة ثورية بالمعنى التخريبي و التدميري للجيش السوداني مفادها الاستسلام أفضل و أقل تكلفة من استمرار الإبادة الجماعية للسودان ، و إلا سنستمر في تحويلها بالكامل لأرض محروقة خربة لا تصلح لحياة البهائم ،غير حالات الإجهاض القسري و الاغتصاب الجماعي التي وصلت لمعدلات غير مسبوقة منذ مذابح الصرب في ديسمبر ١٩٩٥ ،و تتخطى حتى أعداد الضحايا المتعلقة بإبادة غزة التي وصلت لمرحلة الولادة من دون مخدر ، و قص الحبل السرى بالأخشاب المتبقية في الأرض نتيجة الركام المندثر ، و التضميد بالأربطة المطاطية وصولًا لأحزمة البنطلونات القديمة ، فلا فوز لفئة على حساب أخرى في حرب الجنرالات كما قال الصحفي السوداني محمد أمين في موقع ميدل إيست أي في يونيو ٢٠٢٣م .
كما تكتمل صورة النتيجة النهائية لحرب الإبادة البيضاء لصورة قاتمة لنهب الموارد أيضًا بعيدًا عن الإصلاحات الهيكلية اللازمة من شأنها تعويض التلفيات المدمرة ، و من هنا تظهر حتمية توجيه جزئي للموارد الذهبية و المعدنية لتشغيل الاقتصاد الإنتاجي و التحويلي لإتاحة الفرصة للنهوض ، و كذلك تخفيض الوقت المستغرق في الترميم و إعادة الإعمار الكامل لها بدلًا من تكرار سينايورهات تاريخية دائرية قاحلة لم تجد نفعًا مثمرًا أو انقلبت على عقبيها مع الحرص على القضاء التام على سبب المشكلة الأساسية دون رجعة .